الرئيسية
أحدث الصور
جنون الخلود - 4- إضطراب وهذيان
الجمعة, 29 شباط 2008
الأفكار نادرة جدا في منظومات رشيد سليم الخوري. وهي، على قلتها، شعث غير ملوم. بل هي فسيفساء أفكار عامية، في الغالب، أو شائعة. فهو إذا فكر بالاستقلال لا يراه آتيا إلا على يد العرب فيطلب من السوريين أن يتجهوا بكليتهم إلى الصحراء، كما في "تحية الأندلس":
وإذا السيف من الصحراء سلا
نافضا عن أربع الفيحاء ذلا
وكما في قوله في تأبين الوطني الكبير المرحوم الدكتور خليل سعاده:
سنتقتلكم ونحييكم إلى أن
يمزق عن عيونكم الحجاب
غداة نروع الدنيا بجن
على صهواتنا شبوا وشابوا
ويجرفكم من الصحراء سيل
له في ضفة"السين" اضطراب
ظننتم كل ما فيها سرابا
سيشرب بحركم هذا السراب
في بدء هذه الأبيات يظن القارئ أن الناظم يرى رؤيا جميلة تبشر بنهوضنا نحن فتخرج الأبطال الجبابرة من مدننا وقرانا، من جبالنا وسهولنا وأوديتنا، فلا تكاد نفسه تستبشر لذة الأمل بالنهوض حتى يقطع الناظم أمله بوضعه الرجاء في الصحراء وأهلها، لا فينا!
وهو إذا فكر بالبطولة والشجاعة والكرامة ردد أفكار زمن الانحطاط العامية التي نسبت الذل إلى تعليم المسيح:"أحبوا بعضكم بعضا" وانتهى إلى هذه الحكمة التي أخفيت عن العقلاء وأعطيت للجهال:
إذا حاولت رفع الضيم فاضرب
بسيف محمد واهجر يسوعا
"أحبوا بعضكم بعضا" وعظنا
بها ذئبا فما نجت قطيعا
وقوله:
ومن هذا العامي الانحطاطي تفكيره في شأن المبادئ وأهميتها:
وقيل لنا من الأخلاق واقي
أواشنطون كان بلا خلاق
وهل قهر العدى يوم التلاقي
بتلك السمر والبيض الرقاق
وعلم الحرب أم علم المبادي؟
وهذا التفكير سخيف مؤسس على جهل مطبق، إذ لولا المبادئ لما ظهر واشنطن ولا غيره من العظماء. فالمبادئ والإيمان كانت وراء شراذم واشنطن، كما كانت وراء شراذم خواريس. والإيمان والمبادئ كانت وراء المسيح واتباعه، والإيمان والمبادئ، قبل الحسام، كانت وراء محمد وابتاعه. وإن السمر والبيض الرقاق وعلم الحرب إذا لم تستند إلى روحية قوية من الأخلاق والمبادئ والمناقب كانت عديمة الجدوى. وليست المبادئ بمانعة من امتشاق الحسام. والسيف، في الحالات المؤاتية، يؤلف جزءا من الأخلاق والمبادئ فلا وجه، إذن، للأخذ بذاك وترك هاته.
وقوله في الأغنياء ومصير أموالهم بعد موتهم:
لم يمنعوا الناس يوما بعض ما جمعوا
ألا لكي يمنحوهم كل ما جمعوا
ليس سوى نظم فكرة عامية متداولة عند البسطاء يسمعها المرء في مجالسهم سمرهم وليس فيها مغزى مفيد في مجتمعنا العصري المركب.
وفي قصيدته "هنا وهناك" من سخف الفكر ما يحار المرء في بلوغه هذا المبلغ الزري:
إن كرموا العجم ولو هم ظهورهم
وملوكهم رقابا حقها القطع
والناظم يشرح قوله"ولوهم زهورهم" هكذا:"من عادات شعبنا أنهم يحملون من يرومون تكريمه على أعناقهم أو يجرون مركبته" فهل هذا صحيح؟
صحيح أن من عادات شعبنا أن يرفعوا أبطالهم على أيديهم وأكتافهم في ظروف حماس شديد ولكنه ليس صحيحا أن"من عادات شعبنا" أن يجروا مركبة من يرومون إكرامه من العجم. ولا عبرة بحادث من هذا النوع جرى في زحلة وكان خروجا على عادات شعبنا، لا عملا بها.
والظاهر من هذا الاختلاق ومن غيره أن الناظم يروم رمي شعبه بكل حقارة ونسبة كل صغارة ليظهر بمظهر الأبي الأوحد وليتمكن من القول:
إلا ذوقتهم ألمي فثاروا
فيا رباه لست أنا البلادا
وهو يريد به أنه الوحيد من أبناء الشعب المتألم تألما شديدا لما حل بالوطن وأن الله قد حمله وحده عذاب البلاد كلها!
الناظم يحقر الشعب كله ليظهر بمظهر وطني كريم فيقول في قومه:
يرنوا الإباء إليهم. دمعه برك.
نفاسه لهب. أحشاؤه قطع
وهو دائما ينعي لبنان ويرى في عدم توازنه انتفاء الإباء والكرامة منه. لا حالة سياسية- اجتماعية خاصة. فيقول فيه:
لبنان يا لبنان بل ما ضرني
لو قلت يا بلدا بلا سكان!
ثم يسمع الناظم أن مصيبة الشعب من تفرق مذاهب دينية فيقول:
بلادك قدمها على كل ملة
ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
فقد مزقت هذه المذاهب شملنا
وقد حطمنا بين ناب ومنسم
سلام على كفر يوحد بيننا
وأهلا وسهلا بعده بجهنم
وفي قصيدة"الشهداء" يقول الناظم:
أكرم غدا للعرب رابطة
وعقدة وحدت للعرب معتقدا
وهو يريد بهذا البيت أن استشهاد الرجال السوريين الذين سعوا للثورة على الحكم التركي ولتحرير سورية والأقطار العربية الأخرى منه قد صار رابطة لشعوب العالم العربي. وهي فكرة وهمية خادعة. فكيف وأين وجد الناظم أن أمم العالم العربي تعد هؤلاء الشهداء شهداءها هي وتحيي ذكرى مآتمهم وهل تقام لذكراهم المجالس والمآتم في مكة والمدينة وصنعاء وفي القاهرة والاسكندية وضمياط والخرطوم وفي فارس ورباط وتونس والجزائر والمرسى الكبير؟ أو يكفي أن يتبع الناظم بالبيت المتقدم بيتا آخر يقول فيه:
يا زائر الأرز خبر زائر البلد الـ
حرام أنا جميعا جمعنا الأرز والبلدا
لتكون الرابطة بين الأقطار العربية قد تمت وتكون معتقدات الأمم العربية قد توحدت؟
وإذا حملنا معنى هذين البيتين على محمل الشعور بدلا من محمل الفكر فإننا، حينئذ نحتاج إلى أحد علماء مدرسة فرويد في التحليل النفسي ليطل لنا أسباب هذا الاختلال الكبير في شعور الناظم وإحساسه. فإن علماء هذه المدرسة النفسية قد أظهروا لنا أمثلة غريبة على استبدال مختلي أوهاما غريبة الأشكال بالحقائق التي هي بالحقيقة غرض شعورهم الأصلي!
روى أحد علماء هذه المدرسة السكولوجية أن إحدى العوانس كانت تعبر عن خدمات دوافع شوقها وحنينها إلى ولادة ولد بالأحلام غريبة، منها حلم هذا مضمونه: حملت هذه العانس وحنينها إلى ولادة بأوتار البيانو ليصلح خللا طرأ على الأصوات.
فلما فتح الرجل صندوق البيانو وظهرت الأسلاك نظرت العانس فرأت بذورا كثيرة تتساقط خلالها!
كانت هذه المرة تحت مراقبة أحد خبراء مدرسة التحليل النفسي الذي حلمها وأحلامها الأخرى إلى أجزائها وأبان كيف أن اختلال شعور المريضة النفسي- العصبي جعل صور شعورها الأصلي تضطرب وتأخذ أشكالا غريبة بعيدة عن الحقيقة.
وافترض أننا وضعنا رشيد سليم الخوري أو واحدا آخر من المصابين بالعي والعجز وفقد الرجولة الحقيقية، أما كان تحليله لأقواله يعطي هذه النتيجة؟
إن رشيد الخوري أحد الذين يصبون و يشتاقون إلى الإحساس بأنهم ينتمون إلى دولة سائدة ذات حول وطول، ولكنهم، لعجزهم عن إشباع هذه الحاجة في نفوسهم بممارسة أعمال فيها بطولة وشعور حقيقي بالقوة، قد احتل شعور الرجولة فيهم حتى أنهم يحملون الأحلام الغريبة وتصورون التصورات العجيبة ليستعيضوا بها عن الحقيقة المفقودة!
هاني بعل
للبحث استئناف
انطون سعاده
الجمعة, 29 شباط 2008
الأفكار نادرة جدا في منظومات رشيد سليم الخوري. وهي، على قلتها، شعث غير ملوم. بل هي فسيفساء أفكار عامية، في الغالب، أو شائعة. فهو إذا فكر بالاستقلال لا يراه آتيا إلا على يد العرب فيطلب من السوريين أن يتجهوا بكليتهم إلى الصحراء، كما في "تحية الأندلس":
وإذا السيف من الصحراء سلا
نافضا عن أربع الفيحاء ذلا
وكما في قوله في تأبين الوطني الكبير المرحوم الدكتور خليل سعاده:
سنتقتلكم ونحييكم إلى أن
يمزق عن عيونكم الحجاب
غداة نروع الدنيا بجن
على صهواتنا شبوا وشابوا
ويجرفكم من الصحراء سيل
له في ضفة"السين" اضطراب
ظننتم كل ما فيها سرابا
سيشرب بحركم هذا السراب
في بدء هذه الأبيات يظن القارئ أن الناظم يرى رؤيا جميلة تبشر بنهوضنا نحن فتخرج الأبطال الجبابرة من مدننا وقرانا، من جبالنا وسهولنا وأوديتنا، فلا تكاد نفسه تستبشر لذة الأمل بالنهوض حتى يقطع الناظم أمله بوضعه الرجاء في الصحراء وأهلها، لا فينا!
وهو إذا فكر بالبطولة والشجاعة والكرامة ردد أفكار زمن الانحطاط العامية التي نسبت الذل إلى تعليم المسيح:"أحبوا بعضكم بعضا" وانتهى إلى هذه الحكمة التي أخفيت عن العقلاء وأعطيت للجهال:
إذا حاولت رفع الضيم فاضرب
بسيف محمد واهجر يسوعا
"أحبوا بعضكم بعضا" وعظنا
بها ذئبا فما نجت قطيعا
وقوله:
ومن هذا العامي الانحطاطي تفكيره في شأن المبادئ وأهميتها:
وقيل لنا من الأخلاق واقي
أواشنطون كان بلا خلاق
وهل قهر العدى يوم التلاقي
بتلك السمر والبيض الرقاق
وعلم الحرب أم علم المبادي؟
وهذا التفكير سخيف مؤسس على جهل مطبق، إذ لولا المبادئ لما ظهر واشنطن ولا غيره من العظماء. فالمبادئ والإيمان كانت وراء شراذم واشنطن، كما كانت وراء شراذم خواريس. والإيمان والمبادئ كانت وراء المسيح واتباعه، والإيمان والمبادئ، قبل الحسام، كانت وراء محمد وابتاعه. وإن السمر والبيض الرقاق وعلم الحرب إذا لم تستند إلى روحية قوية من الأخلاق والمبادئ والمناقب كانت عديمة الجدوى. وليست المبادئ بمانعة من امتشاق الحسام. والسيف، في الحالات المؤاتية، يؤلف جزءا من الأخلاق والمبادئ فلا وجه، إذن، للأخذ بذاك وترك هاته.
وقوله في الأغنياء ومصير أموالهم بعد موتهم:
لم يمنعوا الناس يوما بعض ما جمعوا
ألا لكي يمنحوهم كل ما جمعوا
ليس سوى نظم فكرة عامية متداولة عند البسطاء يسمعها المرء في مجالسهم سمرهم وليس فيها مغزى مفيد في مجتمعنا العصري المركب.
وفي قصيدته "هنا وهناك" من سخف الفكر ما يحار المرء في بلوغه هذا المبلغ الزري:
إن كرموا العجم ولو هم ظهورهم
وملوكهم رقابا حقها القطع
والناظم يشرح قوله"ولوهم زهورهم" هكذا:"من عادات شعبنا أنهم يحملون من يرومون تكريمه على أعناقهم أو يجرون مركبته" فهل هذا صحيح؟
صحيح أن من عادات شعبنا أن يرفعوا أبطالهم على أيديهم وأكتافهم في ظروف حماس شديد ولكنه ليس صحيحا أن"من عادات شعبنا" أن يجروا مركبة من يرومون إكرامه من العجم. ولا عبرة بحادث من هذا النوع جرى في زحلة وكان خروجا على عادات شعبنا، لا عملا بها.
والظاهر من هذا الاختلاق ومن غيره أن الناظم يروم رمي شعبه بكل حقارة ونسبة كل صغارة ليظهر بمظهر الأبي الأوحد وليتمكن من القول:
إلا ذوقتهم ألمي فثاروا
فيا رباه لست أنا البلادا
وهو يريد به أنه الوحيد من أبناء الشعب المتألم تألما شديدا لما حل بالوطن وأن الله قد حمله وحده عذاب البلاد كلها!
الناظم يحقر الشعب كله ليظهر بمظهر وطني كريم فيقول في قومه:
يرنوا الإباء إليهم. دمعه برك.
نفاسه لهب. أحشاؤه قطع
وهو دائما ينعي لبنان ويرى في عدم توازنه انتفاء الإباء والكرامة منه. لا حالة سياسية- اجتماعية خاصة. فيقول فيه:
لبنان يا لبنان بل ما ضرني
لو قلت يا بلدا بلا سكان!
ثم يسمع الناظم أن مصيبة الشعب من تفرق مذاهب دينية فيقول:
بلادك قدمها على كل ملة
ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
فقد مزقت هذه المذاهب شملنا
وقد حطمنا بين ناب ومنسم
سلام على كفر يوحد بيننا
وأهلا وسهلا بعده بجهنم
وفي قصيدة"الشهداء" يقول الناظم:
أكرم غدا للعرب رابطة
وعقدة وحدت للعرب معتقدا
وهو يريد بهذا البيت أن استشهاد الرجال السوريين الذين سعوا للثورة على الحكم التركي ولتحرير سورية والأقطار العربية الأخرى منه قد صار رابطة لشعوب العالم العربي. وهي فكرة وهمية خادعة. فكيف وأين وجد الناظم أن أمم العالم العربي تعد هؤلاء الشهداء شهداءها هي وتحيي ذكرى مآتمهم وهل تقام لذكراهم المجالس والمآتم في مكة والمدينة وصنعاء وفي القاهرة والاسكندية وضمياط والخرطوم وفي فارس ورباط وتونس والجزائر والمرسى الكبير؟ أو يكفي أن يتبع الناظم بالبيت المتقدم بيتا آخر يقول فيه:
يا زائر الأرز خبر زائر البلد الـ
حرام أنا جميعا جمعنا الأرز والبلدا
لتكون الرابطة بين الأقطار العربية قد تمت وتكون معتقدات الأمم العربية قد توحدت؟
وإذا حملنا معنى هذين البيتين على محمل الشعور بدلا من محمل الفكر فإننا، حينئذ نحتاج إلى أحد علماء مدرسة فرويد في التحليل النفسي ليطل لنا أسباب هذا الاختلال الكبير في شعور الناظم وإحساسه. فإن علماء هذه المدرسة النفسية قد أظهروا لنا أمثلة غريبة على استبدال مختلي أوهاما غريبة الأشكال بالحقائق التي هي بالحقيقة غرض شعورهم الأصلي!
روى أحد علماء هذه المدرسة السكولوجية أن إحدى العوانس كانت تعبر عن خدمات دوافع شوقها وحنينها إلى ولادة ولد بالأحلام غريبة، منها حلم هذا مضمونه: حملت هذه العانس وحنينها إلى ولادة بأوتار البيانو ليصلح خللا طرأ على الأصوات.
فلما فتح الرجل صندوق البيانو وظهرت الأسلاك نظرت العانس فرأت بذورا كثيرة تتساقط خلالها!
كانت هذه المرة تحت مراقبة أحد خبراء مدرسة التحليل النفسي الذي حلمها وأحلامها الأخرى إلى أجزائها وأبان كيف أن اختلال شعور المريضة النفسي- العصبي جعل صور شعورها الأصلي تضطرب وتأخذ أشكالا غريبة بعيدة عن الحقيقة.
وافترض أننا وضعنا رشيد سليم الخوري أو واحدا آخر من المصابين بالعي والعجز وفقد الرجولة الحقيقية، أما كان تحليله لأقواله يعطي هذه النتيجة؟
إن رشيد الخوري أحد الذين يصبون و يشتاقون إلى الإحساس بأنهم ينتمون إلى دولة سائدة ذات حول وطول، ولكنهم، لعجزهم عن إشباع هذه الحاجة في نفوسهم بممارسة أعمال فيها بطولة وشعور حقيقي بالقوة، قد احتل شعور الرجولة فيهم حتى أنهم يحملون الأحلام الغريبة وتصورون التصورات العجيبة ليستعيضوا بها عن الحقيقة المفقودة!
هاني بعل
للبحث استئناف
انطون سعاده
