m3rouf alkhoder
أهلاً بكم في المنتدى الخاص بمعروف الخضر يمكنكم تصفح الموقع ولوضع المشاركات يرجى التسجيل

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

m3rouf alkhoder
أهلاً بكم في المنتدى الخاص بمعروف الخضر يمكنكم تصفح الموقع ولوضع المشاركات يرجى التسجيل
m3rouf alkhoder
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
m3rouf alkhoder

منتدى شعري ثقافي

designer : yaser marouf email:y.a.s.e.r.94@hotmail.com

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

كتاب " نشوء الأمم " للزعيم 1937

اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

1 كتاب " نشوء الأمم " للزعيم 1937 Empty كتاب " نشوء الأمم " للزعيم 1937 الخميس سبتمبر 15, 2011 9:21 pm

Admin


Admin

•· الشّكل الديمقراطيّ:



للدّولة ثلاثة أشكال رئيسيّة هي الدّيمقراطيّة والأوطقراطيّة والأرستقراطيّة، أو هي حكم الشّعب وحكم الفرد المطلق وحكم الأقليّة المفضّلة. وفي أبسط وأولى حالات الدّولة الّتي هي أبسط حالات التّطوّر الاجتماعيّ نجد الشّكل الدّيمقراطيّ للدّولة في العشيرة أو القرية، حيث يمكن اجتماع الشّعب كلّه. وحيث الدّولة أوسع من القرية أو العشيرة فالعشيرة أو القرية تتمتّع باستقلال إداريّ تامّ، فالطّوطميّة تزول ولكنّ الأساس الّذي قامت عليه يبقى.

يتألّف شكل هذه الدّولة الدّيمقراطيّ من الرّأس ومجلس الشّيوخ أو مجموع الشّعب. ومجلس الشّيوخ يتألّف من رؤساء البيوت أو العائلات أو العشائر الّتي هي من صلب القبيلة. وفي هذه الحالة يكون الرأس مقيّداً برأي المجلس أو الجماعة. وفي الدّولة القبيلة أو الأرضيّة المتّسعة لا سبيل لاجتماع الشّعب فيكون الشأن دائماً للشّيوخ. وهذا الطابع هو من خصائص دول الشّعوب الفطريّة الّتي لا قياس لها في المجتمعات المرتقية العمرانيّة. وهو شكل يجمع بين شكلين: أرستقراطيّة السّنّ والتّمثيل الشّعبيّ. فإنّ امتياز الشيوخ يكاد يكّون طبقة أرستقراطيّة في حين أنّ علاقتهم بالشّعب متينة إلى حدّ يكتسبون عنده صفة التمثيل والنّيابة(142) وعلى هذا أكثر الشّعوب الصّيّادة وجامعة القوت في أستراليا والأسكيمو وهنود أميركا والشّعوب المتبديّة في آسيا وأفريقيا(143) وظهور هذا الشّكل في أقلّ الشّعوب ثقافة يعطينا الدّليل الأثنلوجيّ على أسبقيّة الدّيمقراطيّة وإذا كانت الشّيوعيّة قد سبقتها، كما رأيت فيما تقدّم من هذا الفصل ومن الفصل السّابق، فتلك حالة اجتماعيّة بحت لا نظام سياسيّ.



•· الشّكل الأوطقراطيّ:


إنّ الشّكل الدّيمقراطيّ المتقدّم وصفه هو من خصائص الجماعات الأوّليّة والشّعوب الّتي لا قابليّة لها لإنشاء الدّولة الأرضيّة المنظّمة (Territorial) أو الّتي لا تمكّنها أحوالها من ذلك. وهو فوق ذلك يدلّ على انصراف إلى نوع من الحياة بعيد عن الحرب والفتح والتّوسّع. ولعلّ الحرب أدعى الأمور إلى نشوء الشّكل الأوطقراطيّ ولعلّ الملكيّة الصّغيرة نشأت على يد البطل الحربيّ الظّافر(144). وليس أوهى من النّظام السّابق في الحالات الحربيّة الّتي تقتضي دفاعاً شديداً ضدّ عدو قويّ أو إعداد حملة منظّمة على بلاد. ولذلك نرى في بعض القبائل تنظيماً ثنائيّاً يقابل حالتي السّلم والحرب فلحالة السّلم رأس ضعيف القوّة وللحرب رأس واسع السّلطة(145). ومن تحوّل سلطة هذا الأخير إلى الثّبات والاستمرار ينشأ الشّكل الأوطقراطيّ. وبعد نشوئه لا تبقى له حاجة إلى شرط بقاء الحرب، فيصبح الرّأس أميراً مطاعاً في الأمر والنّهي وفي يده الحياة والموت. ويصبح المبرّر لوجوده نسبه أو حسبه أو ثروته أو ظهور سلطة له على القوى الخفيّة من عالم الأرواح. وأبرز صورة لهذا الشّكل تبدو في دول الزّنوج الاستبداديّة. فالرّأس أو الأمير سردينيّ (سحريّ). وفي بعض القبائل يحتجب شخصه عن النّاس ويشدّد في ذلك حتّى ليجازى، من رآه يأكل، بالموت(146).

ولكنّ الشّكل الأوطقراطيّ لا يكون دائماً بهذه الفظاعة. ففيه أيضاً مجال للاجتماع الشّعبيّ العامّ وللشّورى. وتضعفه بعض العادات الرّاسخة في التّقليد كعادة إقصاء المراهق عن المجتمع إلى البرّيّة ليتعوّد الاحتمال والخشونة فيتكونّ من مجموع المراهقين نوع من جمعية تضمّهم في أحوالهم الخاصّة، ثم لا تلبث أن يصير لها شأن في المجتمع(147). ولا يستطيع الرأس الحاكم بأمره التّخّلص من وظائف الشّيوخ الشّوريّة. والموظّفون في دائرة الجباية والنّظر في بعض المصالح، يمتزج في خدمتهم الأمير ــ تمثيل المصالح القائمين عليها ويكونون الواسطة لإبلاغ رغائب التابعين إلى الأمير.



•· الإقطاع


في الدّول الأوطقراطيّة الّتي تتغلّب على ما جاورها يظهر الإقطاع بشكل ولاية لرجل من أهل الأمير يتصرّف بالمقاطعة الموكلة إليه بمطلق إرادته(148)، يأمر وينهي ويجبي كيفما شاء. ويكون طابع هذه الدّولة استبداديّاً ولكن هنا أيضاً تدخل عوامل تضعف الاستبداد، منها اجتماع الأشراف ووجود مجال لاجتماع الشّعب أيضاً. وأحياناً ضعف الأمير وعجزه عن القبض على أزّمة الأمور بقوّة. وهكذا نجد عنصر الدّيمقراطيّة حتّى في الدّولة الاستبداديّة إلاّ أنّ هذا العنصر يكون من حظّ الفاتحين فقط ، أمّا المغلوبون فعليهم الطّاعة والخضوع. وطريقة اجتماع الشّعب الدّيمقراطيّة تكون بالاجتماعات المعقودة في القرى برئاسة شيخ القرية للبحث في شؤون القرية الدّاخليّة. ويكون فوق هذه الاجتماعات اجتماعات أكبر لكلّ منطقة الدّولة لحلّ الاختلافات الّتي لا يمكن حلّها في الاجتماعات القرويّة(149).



•· الشّكل الأرستقراطيّ:


نرتقي من الشّكلين المتقدّمين إلى الشّكل الأرستقراطيّ عن طريق الإقطاع. وينشأ هذا الشّكل في أرقى الشّعوب الفطريّة ثقافة كالبوانسيّين الّذين لهم زراعة وإقامة، وفيهم تنشأ البيوتات الكبيرة الجامعة العبيد والأرقّاء والقائمة بأود أهلها منفردة. فهنا نجد للدّولة ملكاً أو أميراً وإلى جانبه طبقة النّبلاء الّتي تفصل بينها وبين العامّة شقّة بعيدة. والشّعب يرى في الأمير سرّ قوّة إلهيّة فلا يتقدّم إليه الأتباع إلاّ ركّعاً. وله سلطة على الحياة والموت. إلاّ أنّ سلطته تخفّ جدّاً تجاه الأشراف الّذين يهمّه أمرهم والذين كثيراً ما يؤلّفون مجلس شورى يقيم بعض الحدود للسّلطة المطلقة الّتي يتمتّع بها الأمير.



•· إدارة الدولة:


هكذا الدّولة الأوّليّة في أشكالها السّياسيّة. ولا بدّ لنا لاكتمال نظرتنا فيها، من لمحة تتناول إدارتها، وهي ضئيلة جدّاً، لأنّ الإدارة ظلّت متأخّرة جدّاً عن النّظام الدّستوريّ للدّولة، ولذلك لا يصحّ مطلقاً أن نطلق على الدّولة الأوّليّة اسم منظّمة فهذا الاسم تحتفظ به الدّولة التّاريخيّة الّتي شكّلت الإدارات وسجّلت الحقوق القانونيّة.

ولا شكّ في أنّ العادة وما مشى عليه الجدود شكّلا قسماّ كبيراً من الإدارة وعاقا نشوء الإدارة الفعليّة. ومن هذه الجهة تبدو لنا أهميّة الرّأس أو الأمير حيث الوظائف والمكاتب الإداريّة معدومة. فحين يكون الأمير قويّاً طموحاً تمتدّ الدّولة، وحين يكون خامل الهمّة تضعف الدّولة وتتقلّص.

والعقائد والأوهام الدّينيّة (السّحريّة والخرافيّة) تلعب دوراً هامّاً في عرقلة تقدّم الإدارة، فنفوذ السّحرة كبير وتسلّطهم على العامّة عظيم حتّى إنّ رأس الدّولة في المرتبة الدّيمقراطيّة يتّخذ لنفسه وظيفة السّاحر ويستمدّ من هذه الوظيفة نفوذاً إداريّاً لا يستهان به. ولكن ليس كلّ الرّؤوس مؤهلين للأعمال السّحريّة ولذلك تظلّ الكّهانة قائمة وتتّخذ لنفسها وظائف دوليّة كالقيام بنصيب من التّشريع.

وإنّنا نرى سياسة الدّولة الاقتصاديّة تستند على الدّين فتتّخذ من الطّابو وسيلة لحفظ حقوق الامتلاك فاستخدمته أقوى الطّبقات الاجتماعيّة لمنع النّاس من استعمال أو استثمار بعض المناطق والممتلكات. والطّابو مستمّد من الاعتقاد بالاتّصال بعالم الأرواح الّذي هو من خصائص السحرة. فتطّوب الممتلكات وتصبح محرّمة، فكلّ من اعتدى عليها يخرق حرمة الطّابو ويعرّض نفسه لغضب عالم الأرواح، ثمّ ارتقى هذا التّعريض إلى إنزال العقاب الدّنيويّ بكلّ من تسوّل له نفسه انتهاك قداسة الطّابو(150).

وتتناول الإدارة عدا ما تقدّم [دخوليّة] السوق فيعيّن الرّأس أو الأمير حرّاساً ليتحققّوا من نزع سلاح القادمين إلى السّوق، وقضاة لحلّ المسائل الحادثة أثناء السّوق ويفرض الرّأس ضريبة [الدّخوليّة] وضرائب أخرى ينزلها بالقوم المغلوبين. وفي الدّول الاستبداديّة تتّخذ الضرائب شكلاً من السّلب لا يقتصر على مؤدّي الجزية بل كثيراً ما يتناول أتباع الأمير أنفسهم.



• ض‌- في الدّولة التاريخيّة


يظهر لنا في ما تقدّم صورة جليّة لكيفيّة نشوء الدّولة بعامل الحياة الإنسانية، ومنذ نشأت الدّولة أصبحت هي شخصيّة المجتمع وصورته، يعظم بعظمتها ويصغر بصغرها وإنّنا نرى ابن خلدون في مقدّمته قصر اجتهاده على تعريف شكل واحد للمتّحد الاجتماعيّ هو الدّولة. فالدّولة هي الّتي صهرت جماعات متباينة في بوتقة واحدة وكوّنت من المزيج وحدة نظاميّة حيثما مكنّت من ذلك البيئة ووجهة الحياة. والحقيقة أنّ الدّولة ما كادت تشعر بوجودها وكونها سلطة في المجتمع حتّى أخذت تسيطر على المجتمع وتصرفه في أغراضها. الدّولة هي الّتي تشكّل المجتمع وتعيّن مداه وتكيّف شؤون حياته وتمثّل شخصيّته. هكذا نجد الدّولة المنبثقة مع فجر التّاريخ، وهكذا تنشئ الدّول التّاريخ.

يبتدئ عهد الدّولة التّاريخيّة، في الأقوام الثّقافيّة الخارجة من العصر الحجريّ إلى العصر المعدنيّ، وهي الأقوام الساميّة في سورية (بابل وأرض كنعان) والحاميّة في مصر، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ص96، بالانتقال من التنظيم العشائريّ إلى دولة الأرض، وبتحوّل الأمير ذي القوّة السّحريّة الخرافيّة إلى ملك هو الإله أو كاهنه الأعلى، هو بهاء الشّمس المشرقة. ففي الأساطير المصريّة أنّ الآلهة أنشأت الدّولة المصريّة، كما أنشأت العالم وأنظمته(151)، وفي المملكة المصريّة الجنوبيّة، قبل ميناس بزمان، نجد هورس، أقدم إله مصريّ قومي، متجسّداً في الملك(152) ويذهب ماير(153) إلى أنّ الحالة في المملكة الشماليّة لم تكن تختلف عن هذا الشّكل.



•· الدّولة الاستبداديّة وعهد الإمبراطوريات الأولى:


الحقيقة أنّنا لا ننتقل دفعة واحدة من مرتبة الدّولة الأوليّة إلى مرتبة الدولة التّاريخيّة النّاشئة في سورية [بابل وأشور] وفي مصر، بل هنالك مرتبة وسطى لا بدّ لنا من الإلماع إليها هي مرتبة دول الشّعوب المتوسطة بين الشّعوب الأوليّة والشّعوب الثّقافية.

على هذه المرتبة المتوسّطة نجد إمبراطورية الأزتك المكسيكيّة الدّالة على طور ثقافيّ عال نوعاً. فإنّ شعب الأزتك كان قد اخترع كتابة خاصّة لا علاقة لها بكتابة الشّعوب الأسيويّة، لها مزيّة قابليّة التّطوّر نحو الكتابة الصّوتيّة المقطعيّة، وأنشأ دولة واسعة الأطراف بقي لنا منها قسم من كتاب في الحقوق الجزائيّة لعهد الملك [نزاهو الكويتل] الّذي ملك من 1431 إلى 1472(154). وكان لهذا الشّعب عادات تشابه عادات العالم القديم كعادة الختان والمعموديّة بالماء.

وفي هذه الدّرجة أيضاً إمبراطورية الأنكا البيروانيّة وهي إمبراطورية قامت على الحرب والفتح وملوكها آلهة متحدّرون من الإله الشّمس، ومن تقاليد ملوكهم تزاوج الأخ والأخت وفاقاً للتّقاليد الدّينيّة. والملك هو في الوقت نفسه رئيس كهنة الشّمس والرّوح الكونيّة. ويجيء بعده سلك من الكهنوت لا بأس بترتيبه. ولكنّ الأنكا، إجمالاً أحطّ ثقافة من الأزتك فليس لهم كتابة(155).

ومن الشّعوب الشّقيقة للشّعوب الثّقافيّة ولم تتمكّن، لظروفها الخاصّة، من بلوغ مرتبة الدّولة الثّقافيّة التّاريخيّة: العرب والمغول. ففي بلاد العرب أوجد محمد الدّولة الدّينيّة الّتي ما لبثت أن انتقلت إلى خارج بلاد العرب حيث دخلت في حوزة الشّعوب الثّقافيّة المنشئة الدّولّ. وفي بلاد المغول المشهورين بفروسيّتهم وقوّة سياسيّيهم نشأت بعض الدّول الّتي دخلت التّاريخ وقامت بفتوحات واسعة، خصوصاً في الصّين، الّتي دخلها أتباع جنكيزخان، والهند. ولكنّ شعوب المغول الباقية، كالقلموق، فإنّ دولتهم تشبه الدّولة في بلاد العرب من حيث إنّها دولة قبائل يؤلّف العرف نصوص حقوقها والأوامر والنّواهي الدّينيّة شرعها. وقد عرض ابن خلدون، في مقدّمته، للأسباب الّتي تحول دون نشوء الدّولة في العرب ومن في حكمهم إلاّ على أساس دعوة دينيّة ولكنّه لم يستوف هذه الأسباب.

وإنّنا نجد الدّولة التّاريخيّة نفسها مستندة في بدئها إلى أساس دينيّ حتّى إنّنا نجد شبهاّ عظيماً بين ملوك مصر قبل ميناس وملوك الأنكا في أميركا الجنوبيّة، ولكنّ الدّولة التّاريخيّة استمرت وتطوّرت مع تطوّر الشّعوب.

طبعت الدّولة التاريخيّة في بدء نشوئها بطابع الاستبداد، لأنّ الدّولة بطبيعتها قوّة والقوّة تطلب دائماً السّيطرّة. وطرليف شيلدرب ــ ابه(156) يقول إنّ الاستبداد هو المبدأ الأساسيّ للاجتماع الإنسانيّ والحيوانيّ والنّباتيّ، بل وللجماد أيضاً. ويزيد أنّ الاستبداد هو الفكر الأساسيّ للعالم. وما نريد أن نتوغّل هنا في مثل هذه المذاهب الفلسفيّة في طبيعة الدّولة والاجتماع. ولكنّنا نقول إنّ الدّولة الشّاعرة بقوّتها في عهد لا إرادة ظاهرة فيه سوى إرادتها، لم يكن لها مندوحة عن الاستبداد. فهي كانت شيئاً فوق المتّحد الاجتماعيّ وكانت تدّعي سلطة من عالم فوق هذا العالم. أمّا الإرادة العامّة الّتي هي من خصائص كلّ متّحد فكانت شيئاً إمّا باطناً وإما كامناً. ولم تكن الدّولة فقط تدّعي سلطة اللّه، بل كان النّاس يعبدون الملوك عبادة. ففي الدّولة المصريّة الوسطى أوصى أب أولاده: مجّدوا الملك في قلوبكم، فهو إله الحكمة الّتي تبصر عيناه ما في القلوب، هو رع الّذي نبصر لمعانه، هو يضيء مصر أكثر من الشّمس ويجعل الأرض أخصب ممّا يجعلها النّيل الكبير، هو يطعم عابري سبيله. الملك روح خالق وبارئ النّاس الخ(157). وكما أوجدت الآلهة المملكة المصريّة كذلك أسّست الآلهة مملكة حمورابي وأسلافه فهي لا تزول حتّى تزول السماء والأرض، كما يقول الملك نفسه(158).

لا مجال، في هذا البدء التّاريخيّ للدّولة، في هذه الدّولة الّتي أسّستها الآلهة، لتعريف القوّة السّائدة بأنّها [من صفات الإرادة العامّة الّتي عمّمها الاتحاد في القصد](159). فالقصد هو قصد الدّولة، قصد القوّة السّائدة المسيطرة، قصد الملك الّذي استأصل شأفة الثّأر وجعل الحقوق الجزائيّة من شأنه(160) وأنشأ الجيش وسيّره للفتح والسّلب. وتصريف شؤون الدّولة أمر متّفق عليه بين الملك والإله المتجسّد فيه.

لمّا كانت هذه الدّولة القائمة بإرادتها قد نشأت في مهد الثّقافة، في الشّرق الأدنى، خلط المؤرّخون والدّارسون القدماء بين طبيعة الدّولة وطبيعة الشّرق، بين طور من أطوار الثّقافة والشّعوب المنشئة الثّقافة بين الشّعوب المتقدّمة والشّعوب الجامدة. ولا يزال هذا الخلط يردّد حتّى الآن.

سارت الدّولة التّاريخيّة نحو الإمبراطورية بعامل مبدأ القوّة. والدّولة المتّسعة كانت تمثّل انتصار فكرة القوّة في السّياسة على فكرة العدل فيها(161)، فقد تخلّت الدّولة عنّ تلك الدّيمقراطيّة الأوّلية الملازمة لحالة كلّ أشكالها وقواها رهن القوت الضّروريّ، واتّخذت من أسباب الثّقافة المرتقية في أعمال الإنتاج والخزن وسيلة لتنفيذ إرادتها. وهكذا تمّت لها السّيطرة الّتي أصبحت محور المزاحمة بين طبقة الملاّكين الأرستقراطيّة والملك. ولكنّ سياسة الإمبراطورية كانت في جانب الملك لما تقتضيه من التّمركز خصوصاً حيثما كانت الخطط خطط الملك كما في بابل ومصر.

وبديهيّ أنّ تمركز القوّة تمركزاً نظاميّاً لا يمكن أنّ ينشأ في حالة البداوة وبين الرعاة وهو عند أهل الزّراعة والفلح أضعف منه عند أهل المدن ولذلك نجد القّوة في المناطق الحضريّة متمركزة في أهل المدينة. وإنّ قوة بابل العظيمة تعزى إلى المدن الّتي نشأت في شنعار أكثر مما تعزى إلى غنى الأرض. ومتى علمنا أنّ عدداً من المدن الصغيرة في منطقة لا تكاد تتجاوز الخمسين ميلاً طولاً والعشرة أميال عرضاً(162) هي الأساس الّذي بنت عليه بابل عظمتها وقوّتها الإمبراطورية أدركنا أهميّة المدينة للدّولة الرّامية إلى الاتّساع.

في بابل وممفيس تمركزت القوّة والإدارة حتّى أصبحت إرادة الفرد الملك هي كلّ شيء في الدّولة. ولكنّنا نجد فرقاً ظاهراً في تفرّد النّظامين السّوريّ (الشّنعاريّ) والمصريّ. فمع أنّ حمورابي لبّى دعوة الآلهة ليقيم القسطاس في النّاس فإن شريعته الشّهيرة الّتي خلّدت ذكره كلّها أحكام زمنيّة دنيويّة، وليس في بابل، لسلك الكهنة، الشأن الّذي كان له في مصر في الدّولة الجديدة حيث شغل الكهنة وظائف الدّولة. هنا نشب نزاع شديد بين قوّة الدّولة الزمنيّة وسلطة الكهنة لعهد أخنتون(163). ولكن المحاولة الإصلاحيّة القائلة بوحدة الإله الّتي نادت بها الملكيّة خابت ودلّت عودة العبادة القديمة على أنّ قوّة السّلك الكهنوتيّ كانت أشدّ من قوّة الملك الّذي أصبح لا يحمل من الحكم سوى اسمه بينما الفصل في أهمّ الشّؤون يلقيه أمون إلى رئيس الكهنة فكانت خطط الفكر بين سورية ومصر عظيمة وأكيدة. ولكنّنا مع ذلك لا نرى في مصر ولا في أيّة دولة أخرى ما نراه في الهند من قوّة الكهنة الّذين شكّلوا طبقة احتكرت السّلطة، فهنالك تنصّ القوانين على خضوع الملك الحاكم بمفرده للكهنة. وقد قوي سلك هؤلاء وبلغ من استفحال أمره أنّ أصبح من واجبات الملك المتوّج أداء يمين الإخلاص للكهنة البرهمانيّين الّذين لهم الكلمة النّافذة في إعلان الحرب ووضع السّلم، وفي السّياسة والقضاء والتّنفيذ والتّشريع(164). والأرجح أنّ هذا هو السّبب في بقاء الهند بلا إمبراطورية ولا ديمقراطيّة إلى العصر الحاضر.

كان للتّفرّد في السّلطة في بابل ومصر، خصوصاً في الأولى، الشّأن الأعظم في تنظيم الدّولة وترتيب الإمبراطورية. فإنّ المسؤولية تجاه الملك وإمكان مراجعة الرّعية الملك في أيّ أمر كبير أو صغير منعا تولّد سيطرة النّبلاء وذهاب السّلطة إلى أيديهم وأغلقا باب التّلاعب بالمقدّرات لهم. والحقيقة أنّنا نجد جذور الدّيمقراطيّة الحديثة في سلطة الفرد الّتي أنقذت السّيادة من مطامح الأقليّة الممتازة أو كما يقول مكبور(165)، على هذه الطّريقة أعدّت الملكيّة طريق الدّيمقراطيّة.

نظّمت الدولة المركزيّة ذات السّلطة الفرديّة الإدارة العامّة والجيش. ففي بابل نظّمت المكتبيّة بكلّ دقّة وكانت العناية بموظّفي الحكومة كبيرة. وكانت الدّولة تأخذ على نفسها تحرير الأسرى الّذين يقعون في أيدي العدوّ حين لا يكون لهم ما يفكّهم(166). وكان نظام توزيع الثّروة والاشتراك في الدّولة يقوم على استثمار المشاع بحيث تحدّد للمرء أرض يعمل فيها ويعطي الزّائد عن حاجته للدّولة لقاء استعداده للانخراط في الجيش والاشتراك في الحملات الحربيّة. وقد كان الجيش في بابل ومصر من أبناء الدّولة شعبيّاً. وكانت الدّولة السّوريّة في عهد حمورابي تمتاز على الدّولة المصريّة بتنظيم الجيش في أيام السّلم والحرب. ففي شريعة حمورابي كان استئجار الجند يعاقب بالإعدام(167) وقد ارتفع لذلك الفنّ الحربيّ عند البابليّين، فعنهم نقل المكدونيّون فنّ الحصار، ومن فنونهم محطّات النّار الّتي عرفت فيما بعد بالنّار الإغريقيّة(168). أمّا في مصر فلم يكن للجيش مكانة ممتازة في الإمبراطورية المتوسّطة، وإن كانت هذه الدّولة قد سجّلت لنفسها بعض الانتصارات الهزيلة. والفضل في رفع الجيش المصريّ في الإمبراطورية الجديدة إلى مستوى مشرّف يعود إلى الملوك السّوريّين، الهكسوس(169) الّذين أعادوا تنظيم الجيش. ولكنّ الإمبراطورية الجديدة استندت في تقوية الجيش إلى استئجار الجند فكان ذلك من أكبر العيوب الّتي أدّت إلى عواقب وخيمة كالعواقب الّتي نزلت بالإمبراطورية القرطاضيّة، كما سيجيء، إذ إنّ ما يبقي الجيش المأجور قائماً هو رنين النّقد لا صوت الملك. والجيش الّذي ساعد بزمتيخ Psammetich على إنشاء دولته أخذ يتناول أجرته من فارس بعد نكبة بلوسيوم.

أمّا الإدارة العامّة فقد أشرنا إلى أنّها كانت متمركزة، وصحيح أنّ الفرد المتسلّط بصفة ملك كان له مجلس يستشيره في أمور الدّولة، ولكنّ هذا المجلس لم يكن له شأن المجلس الوزاريّ الّذي نعرفه، وأخبار حمورابي تدلّ على كثرة ما كان يمرّ على يدي الملك من الشّؤون. فهو الّذي كان يهتمّ بالأعمال الزّراعيّة كالرّيّ وبناء المخازن لأيام الجدب وما شاكل وهو مرجع كلّ أمر كبير أو صغير.

ممّا تقدّم لنا في هذا الاستعراض نرى أنّ الدّولة الإمبراطورية عرفت السّيادة بمعنى التّملّك وحوّلت الثّروة العامّة إلى ملك خاصّ ولكنّ السّلطة الفرديّة أنقذت الشّعب من استبداد الطّبقة، حيث وجدت، إلاّ في الهند حيث برهنت الطّبقات على أنّها أشدّ ارتكازاً من سلطة الملك الفرد.

جرت الدّولة على خطّة الاتساع الأرضيّ فسيطرت على شعوب متعدّدة وبقاع واسعة فقد قامت بابل ثمّ سقطت وقامت أشّور الّتي جرت على الأسلوب نفسه ثم عادت الدّولة البابليّة الجديدة على سواعد الكلدان الّذين هم فرع من الآراميّين فكسرت شوكة الأشّوريّين وبسطت سلطانها عليهم. وحمورابي نفسه كان سوريّاً أموريّ الأصل(170). ونشأت في سورية دولة قويّة بسطت سلطانها على مصر ونقلت مركزها إليها. كما عادت مصر فوسّعت سلطانها وكما انحدر الفرس على إمبراطورية الكلدان وبسطوا سيطرتهم على بقاع مترامية الأطراف.

في كلّ هذا التّاريخ الطّويل نعرف المجتمع في الدّولة السّائدة، فالشّعب تابع لها، فلا كيان للأقوام غير كيان الدّولة، وإن احتفظت بعباداتها وطقوسها، بل إنّنا نجد الدّولة آخذة في جبل المجتمع فهي قد جبلت السّاميين والشّمريّين في [باب الله] (بابل) في سوريّة الشّرقيّة، وهي جبلت الشّماليّين بالجنوبّيين في سوريّة الغربيّة.



•· الدّولة المدنيّة والإمبراطورية [البحريّة]:


ولكنّ الدّولة لم تسر دائماً على الأسلوب المتقدّم وصفه فهو من خصائص أسباب معيّنة في ظروف موافقة. ففي سورية نجد الدّولة تحتاج إلى درس خاصّ سنتوسّع فيه في الكتاب الثّاني من هذا المؤلّف. ولكن لا بدّ لنا هنا من ذكر ما له علاقة بالتّطور العامّ للدّولة في هذه البلاد.

إنّ سورية أيضاً ساهمت في الدّولة البرّيّة حيث ساعدت الظّروف كما في الشّرق حيث نشأت الإمبراطورية الأكّاديّة والإمبراطورية الكلدانيّة وكما في الشّمال حيث نشأت الإمبراطورية الأشّوريّة والحثّيّة. وإنّنا نعلم أنّه على أثر انتهاء الإمبراطورية الوسطى في مصر قامت من سورية حركة إمبراطورية واسعة اكتسحت مصر وثبّتت نفسها هناك وأنشأت الأسرة المعروفة بأسرة الهكسوس الّذين عرفوا، بإحدى التّرجمات، بالملوك الرّعاة(171). ولكنّ اتجاهاً خاصّاً في الدّولة نشأ في سورية كان له شأن غير الشّأن العامّ الّذي كان للدّول في مصر والصيّن. ونرجّح أنّ السّبب الأقوى في نشوء هذا الاتّجاه هو البيئة السّوريّة المتنوّعة، خصوصاً الشاطئ السوريّ. فإنّ البحر لم يكن للسّوريّين ما كانه لأقوام البلدان الأخرى: حدّاً يجب الوقوف عنده. ومن هذا الواقع ندرك أنّ التّاريخ غير مكتوب على الأديم. فهو غير حتميّ، كما تظهره أقوال وكتابات كثير من السّوريّين في أعصر الخمول القوميّ وأوضحها العبارة: إنّ سورية جسر بين الشّرق والغرب، أي إنّ تاريخها مقرّر في موقعها. والحقيقة أنّ الأرض تقدّم الممكنات لا الاضطراريّات أو الحتميّات وهذا يعني أنّ الأرض هي الجهة الإيجابيّة من التّاريخ لا الجهة السّلبيّة. فكون سورية، مجازاً، صلة وصل بين الشّرق والغرب لا يحتّم مطلقاً أن يكون تاريخها تاريخ [جسر] ولدينا أكثر من برهان واحد على صحّة ما نقول.

الحقيقة أنّ ما تألّمت منه سورية منذ أقدم عصورها إلى اليوم هو كونها موازية من الجنوب للصّحراء الهاجمة على أرضها وأنّها معرّضة دائماً لتسلّط تيارات من هجرة القبائل المتبديّة عليها. أمّا شكل الأرض الدّاخليّ فقد نوّع الممكنات للشّعوب السّوريّة، بمقدار ما حدّدها في العصور القديمة. فإنّ سلسلة جبل لبنان أوجدت صعوبة كبيرة لأعمال توسيع الدّولة وتثبيتها. ولكن ليس هذا كلّ شيء، بل إنّنا نرى من الوجهة الشّعبيّة اتّجاهاً خاصّاً. فإنّ الكنعانيّين انصرفوا إلى أعمال الزّرع والغرس والتّجارة كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، فلم يوجّهوا عنايتهم إلى الحرب والغزو إلاّ نادراً ولذلك لم يقو فيهم الميل إلى إنشاء الإمبراطوريات الاستبداديّة الرّامية إلى التّوسع في الأرض وهم محاطون من الصّحراء والجبال والبحر. أمّا في الشّمال فإنّ الأرض تتّسع مع مجرى الفرات والخابور والدّجلة. وفيما سوى الدّول الأرضيّة الواسعة الّتي نشأت في الشّمال ودولة الأمّوريّين في لبنان وما وراءه نجد دول سورية تتّخذ صبغة جديدة هي صبغة المدينة، خصوصاً في الغرب، على الشاطئ أمام لبنان حيث نزل الفرع الفينيقيّ من الكنعانيّين. هنا أنشئت المدن صيدا وبيروت وجبيل وطرابلس وأرواد وصور وعكّا وصارت كلّ مدينة دولة مستقلّة، كما نشأت في الدّاخلية دول مدنّية امتازت بينها دولة دمشق.

على الشاطئ السّوريّ نشأت المدينة البحريّة الّتي أوجدت اتّجاهاً جديداً في الدّولة وأنشأت الإمبراطورية البحريّة. فحتّى نشوء هذه المدن كان البحر حدّاً تقف الدّولة عنده لا مجالاً تتوسّع فيه، ولمّا أخذت مراكب الفينيقيّين تسبح في البحر وتتّصل بجزر وشواطئ أخرى صالحة للاستعمار، وجّه هؤلاء الكنعانيّون همّهم إلى هذه الإمكانيّة الجديدة الّتي كانت لغيرهم حدّاً للإمكانيّات وتركوا أعباء البرّ بالمرّة وانصرفوا إلى أعباء البحر بالكليّة. وهكذا نجد قوّة من نوع جديد تنشأ على الشاطئ السّوريّ وتمتدّ إلى أماكن قصيّة وتقبض على مواردها، فقد جمع الفينيقيّون بين عنصرين يأتلفان كلّ الائتلاف: التّجارة وسلك البحار، القّوة السّياسيّة والقوّة الاقتصاديّة.

كان من وراء هذا الاتجاه الجديد نشوء مبدأ الاستعاضة عن حشد الجيوش خطوطاً طويلة وفي حملات عديدة لإخضاع المتمرّدين أو لتأمين السّيطرة وأعمال الجباية بإنشاء النّقاط المركزيّة المسيطرة، وهي المستعمرات المنشأة في نقاط معيّنة لتأمين المواصلات والحركات التّجاريّة. أسلوب جديد للتوّسع بوسائل جديدة. وقد برهن هذا الأسلوب عن فاعليّة قويّة ونتائج عظيمة.

ولا بدّ لنا هنا من الإلماع إلى أنّ المزايا الثّقافيّة الّتي كانت للكنعانيّين كانت عظيمة وقد رأينا إبداعها في اختراع الأحرف الهجائيّة. والشّعوب الأخرى الآريّة كالحثيين والمتنيّ وغيرهم والساميّة كالأمّوريّين والأكّادّيين والكلدانيّين والأشّوريّين والأراميّين كانت أيضاً ذات مزايا ثقافيّة عالية وسندرس هذه العناصر السّوريّة في الكتاب الثّاني ونقتصر هنا على هذه اللّمحة، لكي نتمكّن من درس الاتجاه الدّوليّ الّذي أوجد شكلاً جديداً من أشكال الدّولة ومرتبة جديدة من مراتب الثّقافة السّياسيّة. فالثّقافة الكنعانيّة العريقة لم تقتصر على ما هو اجتماعيّ اقتصاديّ كالّذي ذكر في الفصل السّابق بل تناولت ما هو سياسيّ أيضاً. فالشّريعة الكنعانيّة الّتي أخذ عنها العبرانيّون شريعتهم الموسويّة(172) تدلّ على الارتقاء السياسيّ العالي في جنوب سورية كما دلّت الشريعة الحمورابيّة على الارتقاء السياسيّ العالي في شرق شماليّ سورية.

في هذه الأرض الّتي [تفيض لبناً وعسلاً] لم يتشبّث الكنعانيّون بمبدأ المحافظة المغرقة، الّذي كثيراً ما يصبح من مزاج الفلاّح العاكف على الأرض، بل تنّبهوا إلى الممكنات الجديدة. ويمكننا أن نقول إنّ شعوب سورية كلّها لم تكن شديدة المحافظة من هذه الجهة، لأخذها بأسباب التّجارة واتّصالها المستمرّ بالعالم الخارجيّ بواسطة الحرب والتّجارة والاستعمار.

أدّى إدراك الفينيقيّين ممكنات البحر إلى إنشاء الإمبراطورية البحريّة. فالإمبراطورية البحريّة السّوريّة كانت أوّل إمبراطورية بحريّة في العالم. وقد ابتدأت هذه الإمبراطورية بمدينة صيدا الّتي كانت لها الزّعامة الأولى على فينيقية وبلغت أوجها في صور وقرطاضة. والحقيقة أنّ صيدا كانت المثال الأوّل للدّولة البحريّة المسيطرة. فالصّيدونيّون هم أولّ من اكتشف النّجم القطبيّ وأولّ من أبحر في اللّيل(173). ولمّا كانت الإمبراطورية البحريّة تقوم على التّجارة والمواصلات أكثر ممّا تقوم على الاستيلاء على أراض برّيّة واسعة تتطلّب الحاميات الكبيرة وتكون معرّضة للتّفسّخ بطبيعة تقسيمها إلى ولايات وأعمال، فقد أدرك هؤلاء السّوريّون البحريّون بثاقب فكرهم أسرار ثبات الإمبراطورية البحريّة وكان نقل صور البريّة إلى الصّخر البحريّ (صور معناها [صخر]) (174)الواقع على مرمى مقلاع من الشاطئ، عمل نبوغ عظيم جعل الإمبراطورية الصخريّة في مأمن من غزوات جيوش بابل وأشور، الّتي أصبحنا نراها تتجمّع على الشاطئ وتهدّد المدينة الصّخريّة، عاصمة الإمبراطورية الواسعة، بقبضات الأيدي !.

بهذه الطّريقة البديعة أمّنت صور سلامة إمبراطوريتها من أخطار الإمبراطورية السّوريّة البرّيّة [البابليّة والأشّوريّة] حتّى مجيء الإسكندر. ولو أنّ هذه الجزيرة الصّخريّة كانت تبعد كيلو متراً فوق بعدها الأصليّ عن الشاطئ لكان الأرجح أنّ يرتدّ عنها الإسكندر خائباً وقد كاد، إذ قد تبيّن من سقوط صور وقرطاضة أنّ الإمبراطورية البحريّة تقوم على عاصمتها فإذا ذهبت العاصمة ذهبت الإمبراطورية البحريّة فهي من هذا القبيل تختلف عن الإمبراطورية البريّة الّتي قد تذهب عاصمتها، ولكنّ القضاء عليها لا يكون مبرماً.

شيء واحد لم تدركه الإمبراطورية البحريّة القديمة هو وجوب التّناسب بين المركز والأطراف. فالإمبراطورية البحريّة لا غنى لها عن الأرض والقوّات البرّيّة. ولو أنّ الفينيقيّين اعتنوا بالقوّات البّريّة عنايتهم بالقوّات البحريّة لما كانت تعرّضت مستعمراتهم ووطنهم لما تعرّضت له.

ومهما يكن من أمر الإمبراطورية البحريّة الّتي تأسّست على الشّاطئ السّوريّ، فإنّ أهميّة الدّولة المدنيّة الّتي نشأت في سورية عظيمة جداً، خصوصاً دولة المدينة البحريّة. في هذه المدينة وضع أساس الحقوق المدنيّة الّتي ارتقت في قرطاضة وبلغت أوجها في رومة.

في المدينة السّوريّة البحريّة، الّتي طبعت ثقافتها على البحر المتوسّط كلّه، تحوّلت الرّابطة القبيليّة القديمة إلى الرابطة الاجتماعيّة الواسعة. فزال باكراً ذلك الخضوع الأعمى للملك وزالت عن الملكيّة تلك الصّبغة الإلهيّة الّتي كانت لا تزال ترافق الملك والأسرة المالكة في الإمبراطوريات البرّيّة، وأصبح الملك فيما بعد ينتخب انتخاباً لمدّة الحياة، فكان ذلك أصل الدّيمقراطيّة والجمهوريّة. وصحيح أنّ الرّسماليّة تعاظمت وأنّ مقاليد الأمور صارت إلى أيدي الطّبقة الغنيّة، ولكنّ حقوق أبناء المدينة الأحرار في انتخاب الملك وفي الاجتماع لتقرير المسائل الهامّة، كانت حقوقاً مشروعة وإن كانت غالباً اسميّة أكثر منها فعليّة.

في هذه المدينة ازدادت الحركة الاجتماعيّة والاختلاط الاجتماعيّ وأخذت المصالح الخاصّة تحلّ محلّ مصلحة العشيرة وابتدأ النّاس يشعرون باشتراكهم في حياة واحدة هي حياة المدينة، وفي هذا الشّعور نجد أصول مؤسّسة حقوق الاشتراك في دولة المدينة والاتجاه نحو الدّيمقراطيّة. ولكنّ الحقوق السّياسيّة وفي المدينة السّوريّة البحريّة لم تقع قطّ في ورطة استبداد الجمهور بواسطة تدخّل الأفراد، كما حدث في أثينة المدينة الإغريقيّة لعهد بركلس الذّهبيّ حيث كان يحقّ لكلّ فرد أن يتّهم أيّ موظّف في الدّولة، حين انتهاء مدّته، بالخروج على القانون، داعماً تهمته بأيّة صفة من هذه الصّفات المطّاطة: عدم دستوريّة أعماله، أو أنّها غير مرغوب فيها أو أنّ نيّاته كانت سيّئة الخ(175).

إنّ العقل السّوريّ العمليّ لم يكن يميل إلى تخيّلات فاسدة من الوجهة العمليّة. ولذلك فهو قد اكتفى من التّجربة الإغريقيّة للحكم الشّعبيّ، بواسطة الشّعب أجمع، بالمشاهدة. إنّه لخيال بديع، في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيي أن يكون كلّ فرد من أفراد المدينة المعترف بهم [شريكاً] فعليّاً في إدارة الدّولة. إنّ المدينة السّورية ظلّت محافظة على الفرق بين السيّاسة والاجتماع واضحاً. وهذا الفرق هو ما مكّن الدّولة من اطّراد تقدّمها. ونحن نرى هذا الاطّراد جليّاً في المستعمرة السّوريّة الخالدة قرطاضة الّتي ما لبثت أن أصبحت دولة قويّة ومركز إمبراطورية بحريّة مترامية الأطراف.

في قرطاضة زالت الملكيّة الوراثيّة باكراً وحلّت محلّها الملكيّة الانتخابيّة. ومع أنّ الملكيّة جمعت في نفسها وظيفة الكهنوت والقضاء والإدارة التّنفيذيّة، فإنّ انفصال القيادة الحربيّة والسّلطة العسكريّة عنها(176) أضعف مركزها وسيطرتها. ثمّ إنّ الملكيّة نفسها انحطّت في أوائل القرن الرابع ق. م إلى حالة الانتخاب السّنويّ بواسطة الكليّة الانتخابيّة(177). وهكذا نجد الدّولة القرطاضيّة تتّجه رويداً نحو الدّيمقراطيّة السّياسيّة، بعد أن كاد احتكار بيت مقو Mago سلطة الإدارة الممثّلة في السّوفتين Suffets وقيادة الجيش يعيدها إلى ملكيّة(178).

إنّ أهمّ عصور الدّولة القرطاضيّة كان عصر مجلس الشّيوخ ومجلس المئة والأربعة أعضاء. وكان مجس الشّيوخ يتألّف من نحو ثمانية وعشرين عضواً وكان يمثّل رأس الدّولة(179)، ففي صلاحيّته كان إبرام شؤون الدولة وتمثيلها في الخارج وإليه يعود الملوك ومنه يستمدّون قوّتهم. وهنا نجد الدّولة الأرستقراطيّة المؤلّفة من طبقة التّجار المثرين وأصحاب الأملاك الواسعة، ولكنّ قبض أسرة مقو على الجيش والإدارة معاً بالتّعاقب أوجد خطراً عظيماً على الأرستقراطيّة بإمكانيّة إعلان هذه الأسرة نفسها أسرة مالكة. فلما أنشئ مجلس الـ 104 أصبح هذا المجلس صاحب السّلطة العليا في الحكم على موظّفي الدّولة وقواد الجيش ورجال مجلس الشّيوخ والملوك المنتخبين سنوياً أو [السوفت]. ومع أنّ قسماً من هذا المجلس كان ينتخب سنويّاً من الشّعب فإنّ نفوذ الطّبقة الغنيّة واستعمال المال وعدم وجود مادّة تمنع قابليّة إعادة انتخاب الأعضاء على طول الحياة، جعل هذا المجلس يمثّل حكم الطّبقة. ولكنّه كان في كلّ حال خطوة واسعة نحو الدّيمقراطية، إذ إنّ مرتبة المتموّلين لم تكن طبقة خاصّة قائمة بنفسها ومنفصلة عن عامّة الشّعب، بل كانت مرتبة يتعاطى أهلها الأعمال التّجاريّة(180) ويمتزجون بالشّعب. وهذه كانت ميزة للطّبقة الحاكمة في قرطاضة، وإنّ الطّبقات في الدّول السّوريّة البحريّة لم تتحدّد التّحدّد الّذي نراه في غيرها. ولقد تمّ نشوء هذا المجلس الّذي كان يقصد منه وضع حدّ للعائلة المسيطرة على شؤون الدّولة بدون أن تلجأ هذه إلى مقاومته(181)، فبرهنت الدّولة القرطاضيّة بذلك على مرونة سياسيّة كبيرة جعلتها فوق جميع الدّول والإمبراطوريات التي تقدّمتها أو عاصرتها. وماير(182) يقول إنّه لم يكن بين جميع دول الإغريق دولة واحدة بلغت أو كادت تبلغ ما بلغته قرطاضة من وسائل القوّة والاتّساع. ولا يعطي ماير قرطاضة حقّها الكامل حين يقول(183) إنّها جديرة بأن تكون، من حيث التّرتيبات السّياسيّة، مثالاً يقتبس عنه الإغريق من بعض الوجوه.

إنّ محاولة الجمهوريّة الإغريقيّة ألغت الدّولة أو كادت تلغيها. وإنّ الأسلوب الّذي جرت عليه الدّولة في تقدّمها وارتقائها كان الأسلوب السّوريّ الّذي ارتقى في قرطاضة إلى الدّيمقراطيّة ووضوح الحقوق المدنيّة والحقوق الشّخصيّة مع بقاء الدّولة شيئاً متميّزاً عن الشّعب، مؤسّسة لا يمكن أن تعرّض لعبث الجمهور. والحقيقة أنّ نظام الدّولة القرطاضيّة كان معرّضاً لانتقادات بعيدة عن الصّواب، إذ ليس معقولاً، من الوجهة المنطقيّة، أن تتمكّن مؤسّسة فاسدة من إنشاء إمبراطورية واسعة جدّاً وربح حروب عديدة في البرّ والبحر وإدارة هذه الإمبراطورية الضّخمة طوال قرون. فقد أخضعت قرطاضة جميع الشّعوب الحاميّة في تونس ومرّاكش وسيطرت على قبائل البدو المجاورة وألحقت بسلطتها المدن الفينيقيّة على الشاطئ الأفريقيّ واحتكرت الجنوب الغربيّ من البحر المتوسّط والمحيط الأطلنتيّ. وإدارة دولة هذه مساحة أعماله تقتضي نظاماً مرتقياً قويّاً ومؤسسات ثابتة.

قسّم ديودروس أتباع الدّولة القرطاضيّة إلى أربعة أصناف: 1) فينيقييّ قرطاضة. 2) فينيقييّ ليبيا. 3) الرّعايا الليبيين. 4) البدو. ولقد ميّزت قرطاضة بين رعاياها الفينقيّين ورعاياها اللّيبيّين. وصحيح أنّ المدن الفينيقيّة الّتي كانت في البدء حليفة قرطاضة أصبحت خاضعة لها وداخلة في نطاق حقوقها، مع احتفاظها بحكوماتها الخاصّة، ولكنّ ذلك جعل أبناء هذه المدن مساوين للقرطاضيّين في الحقوق الشّخصيّة والمدنيّة فكانوا يترقّون في الجيش ويحقّ لهم تسنّم المراتب العالية فيه. ولهم نفس مرتبة القرطاضيّين تجاه الشعوب الحاميّة المخضعة(184) ولكنّهم كانوا فاقدي الحقوق السّياسيّة.

لم تعرف قرطاضة الثوّرات الدّمويّة العنيفة وهذه الحقيقة تدلّ على أنّ الدّولة لم تسر على طريقة الإرهاق. وإذا كان هنالك ضغط فهو قد تناول العبيد واللّيبيين الّذين كان يصعب على الفينيقيّين الامتزاج بهم وإدخالهم في متّحدهم ولذلك لم تتمكّن قرطاضة من منح هؤلاء حقوق أبنائها، كما فعلت رومة فيما بعد مع الشّعوب الّتي دخلت ضمن إمبراطوريتها. ورومة نفسها، لم تسلّم بتساوي اللاّتين وأبنائها إلاّ بعد حروب عنيفة ومشاكل صعبة.

إنّ المعضلة السّياسيّة العظمى الّتي كانت تواجهها قرطاضة هي النّزاع الشّديد الصّامت بين الطّبقة القابضة على زمام السّلطة وإمبراطور الجيش. والحقيقة أنّ هذا النّزاع كان السّبب الرئيسيّ في خسارة الحرب الفينيقيّة الثّانية مع رومة. ففي هذه الحرب الطاحنة الّتي وضع خطّتها هاني بعل أعظم نابغة حربيّ في كلّ العصور وكلّ الأمم(186)، سلك مجلس قرطاضة خطة غريبة تجاه هذا القائد القرطاضيّ العظيم، فقد اهتمّ هذا المجلس بإرسال المدد إلى الميدان الإسبانيّ ولم يتّخذ أيّ تدبير حاسم لإيصال المدد الضّروريّ إلى الميدان الإيطاليّ. إنّ هاني بعل كان يدرك جيّداً أنّ الضّربة القاضية الّتي يمكن إحدى الدّولتين المتنازعتين أن تنزلها بالأخرى يجب أن تكون في مركزها، ولذلك زحف على رومة ذلك الزّحف الرّائع مجتازاً جبال الألب الشّاهقة حتّى بلغ أسوار رومة وقد دبّ فيها الرّعب على أثر معركة كني المخلّدة نبوغ البطل السّوريّ وهلع قلب شعبها لتناقل العبارة (187)Hannibal ad Portas!. ولكنّ مجلس قرطاضة بقي غارقاً في دسائسه ضدّ القائد ذاهلاً عن المرمى البعيد الّذي رمى إليه هاني بعل.

وفي قرطاضة، كما في رومة، كان نزاع شديد بين حزب الشّعب والطّبقة القابضة على مقاليد الأمور. ومع أنّ المبدأ المعترف به في قرطاضة كان مبدأ سيادة الشّعب، إذ كان من المقرّر أن يستفتى الشّعب في كلّ اختلاف بين المجلس والمراجع الحكوميّة(188)، فإنّ هذا المبدأ ظلّ بعيداً عن التّحقيق بسبب مناورات الطّبقة الحاكمة وبذل المال. ولكنّ الكوارث الّتي نزلت بقرطاضة في الحرب الفينيقيّة الأولى وخسارة الحرب الفينيقيّة الثّانية الّتي كانت كفتها فيها راجحة، قوّت روح الاستياء في شعب المدينة ونشط الحزب الدّيمقراطيّ ومكّن هاني بعل من تحقيق إصلاحه الدّيمقراطيّ بإلغاء إعادة انتخاب أعضاء مجلس الـ 104 أكثر من مرّة واحدة وتحوير بعض القوانين الإداريّة والماليّة فكان هذا الإصلاح سابقة للإصلاح الغراقيّ(189) في رومة.

أعطى إصلاح هاني بعل قرطاضة الدّيمقراطيّة الصّحيحة والاتّجاه الدّيمقراطيّ الفعليّ. ولم يبق أمام قرطاضة لاستعادة حيويتها الإمبراطورية سوى تمديد الحقوق السّياسيّة المركزيّة إلى المدن الفينيقيّة التّابعة أو الموالية لها ورفع الحقوق الشّخصيّة والمدنيّة في الشّعوب اللّيبية الّتي ظلّت موالية لها، وإعادة تنظيم الجيش على أساس قوميّ بدلاً من الجيش المستأجر الّذي كان يؤلّف أهمّ قسم من القّوات المحاربة. ولكنّ رومة لم يكن يهدأ لها روع ما دامت ندّتها العظيمة قيد الوجود فظلّ كاتو يختم كلّ خطاب من خطبه في مجلس شيوخ رومة بهذه العبارة [أعتقد أنّه يجب تدمير قرطاضة] حتّى كانت الحرب الفينيقيّة الثالثّة الّتي انتهت بخراب المدينة وقتل معظم أهلها وجلاء الباقين عنها.

بعد زوال الإمبراطورية القرطاضيّة بقي هنالك قوّتان عظيمتان هما الإمبراطورية السّوريّة والإمبراطورية الرّومانيّة ومع أنّ الإمبراطورية السّوريّة برهنت على أنّها أقوى قوّة في الشّرق الأدنى فإنّ نظامها الملكيّ لم يفعل شيئاً جديداً في سبيل ترقية فنّ الدّولة ولم يكن البيت السّلوقيّ، رغم ظهور بعض أفراده كسلوقس وأنطيوخس الكبير، مؤهّلاً للقيام على مقدّرات الإمبراطورية تجاه إمبراطورية أحدث طرازاً كرومة، فبقيت ترقية فنّ الدولة من نصيب رومة وكانت رومة أهلاً لتحقيق هذه التّرقية.

في الحرب الطّاحنة بين قرطاضة ورومة كانت دولة تحكمها طبقة تحارب دولة تحكمها طبقة. ولكنّ اضطراريّات ظروف رومة دفعتها في اتّجاه جديد هو تمديد حقوق عضويّة الدّولة الروّمانيّة إلى المقاطعات الّتي أدخلتها رومة نهائياً ضمن نطاق سيطرتها. وقد رمت رومة من وراء تمديد هذه الحقوق إلى توحيد إيطاليا تحت سيطرتها، إذ إنّ إيطاليا، لذلك العهد، كانت شعوباً وقبائل متعددة وأحياناً متباينة في ثقافاتها. ولكنّ البيئة الواحدة جعلت الوحدة السّياسيّة أمراً لا مفرّ منه، فكانت هذه الوحدة السّياسيّة الشّرط الأوّل لتوّلد الوحدة الشّعبية الّتي نشأت فيما بعد بعامل الاشتراك في الحقوق الدوليّة.

إن الحروب الإيطاليّة هي الّتي أغنت رومة بالاختبارات السّياسيّة ومن هذه الوجهة يمكننا أن نبصر جيّداً أسباب ترقية فنّ الدّولة في مدينة ناهضة إلى مرتبة الإمبراطورية. إنّ اختبارات رومة السّياسيّة كانت أكثر وأقوى من اختبارات أيّة دولة سوريّة مدنيّة. وهي، بخلاف الدّول السّوريّة البحريّة، مدينة برّيّة في الدّرجة الأولى وكانت محاطة بأقوام تضاهيها وبعضها أرقى منها ثقافة كالأتروريين (أو الأترسكيين) فساعد ذلك على الرّغبة في إدخال هذه الأقوام في نطاقها السّياسيّ والاجتماعيّ ومن هذه الوجهة كانت ظروف رومة تختلف عن ظروف صور وقرطاضة.

ومع أنّ رومة استفادت كثيراً من اختباراتها السّياسيّة الكثيرة فهي لم تخرج عن المثال القرطاضيّ في نظام الدّولة الإمبراطوري، فكما كان مجلس قرطاضة هو المرجع الأخير لمعاهدات وإعلان الحرب وإدارة المدن والمقاطعات التّابعة للدّولة كذلك كان مجلس شيوخ رومة. وكما برهن مجلس الـ 104 القرطاضيّ على عدم كفاءته لسياسة الإمبراطورية العامّة كذلك برهن سناتو رومة على عجزه عن إيجاد الأساليب السيّاسيّة الّتي يمكنها أن تؤمّن توثّق الإمبراطورية(190) حتّى أصبحت القوّة المجرّدة الضّمانة الوحيدة للبناء الإمبراطوري.



إنّ تمديد الحقوق السّياسيّة في الدّولة الرّومانيّة إلى المقاطعات الإيطاليّة ثبّت وحدة الإمبراطورية الرّومانيّة في إيطاليا. ولكن لمّا أصبحت هذه الحقوق توزّع على الشّعوب وراء الحدود الجغرافيّة، كجلالقة عبر الألب، بطل سحرها وصارت عديمة الفائدة، بل أمست في الأخير من عوامل إضعاف مركز الإمبراطورية وذهاب هيبتها. وهكذا نجدها في عصورها الأخيرة مسرحاً لقوّادها المتنازعين فيما بينهم حتّى تداولها القياصرة وحوّلوا جمهوريّتها إلى الشّكل الإمبراطوري القديم الّذي رأينا مثاله في سورية ومصر وفارس.

وبعد فراغ رومة من توحيد إيطاليا توقّفت اختباراتها السّياسيّة لأنّها وجدت علاجاً واحداً لجميع المشاكل الخارجيّة هو علاج القوّة. أمّا العلاج السياسيّ فكان يقتضي تطوّراً خطيراً يغيّر أساس النّظام الكامن في المدينة. كان يجب أن تحلّ إيطاليا محلّ رومة وأن توجد وسيلة للتّعبير عن الإرادة العامّة في الإمبراطورية ولكنّ الطّبقة الأرستقراطيّة في رومة كانت أقل استعداداً من الطّبقة الأرستقراطيّة في قرطاضة لتغيير وجهة نظرها في الغرض من الإمبراطورية. وهكذا سارت رومة في سبيل قرطاضة فكانت آخر دولة من طراز دولة المدينة السّوريّة.

امتازت قرطاضة على رومة بأمر خطير جدّاً في نظام الدولة هو فصل القيادة الحربيّة عن الإدارة السّياسيّة والمدنيّة. ومع أنّ رومة أبدت مرونة سياسيّة عظيمة فاقت بها على قرطاضة في إشراكها الملحقات في حقوقها السّياسيّة، فإنّ تقسيماتها التّشريعيّة والإداريّة الدّاخليّة بإنشائها مؤسسّات الكوريا Curia والسّنتوريا Centuria والكوميتيا Comitia ورؤساء العامّة، الّذين كان لهم حقّ إيقاف التّنفيذ، لم تبرهن قطّ على حقوق دستوريّة يصحّ أن تتّخذ مثالاً في فنّ الدولة. وإنّ نجاح رومة كان على الرّغم من هذه التّقسيمات المتعارضة مبدئياً أكثر ممّا كان بفضلها. إنّ هذه التقسيمات لم تكن سوى تسوية للنّزاع الدّاخليّ.



•· الشّرع:


امتازت الدّولة في رومة على ما تقدّمها من الدّول في أمرين هما تمديد معدوديّة الرّومان (عضوية الدّولة) إلى الملحقات وتكوين وحدة سياسيّة تحفظ روح الإرادة العامّة، وإنشاء الشّرع. والشّرع الرّومانيّ هو أثمن ما تركته رومة للبشريّة.

لا يعني ذلك أنّ الشرع وضع أوّلاً في رومة، فنحن نعلم أنّ شريعة حمورابي السّوريّة هي أقدم شريعة في العالم. وكذلك نجد في جنوب سوريّة الشّرع الكنعانيّ الّذي اقتبس منه ومن الشّرع البابليّ العبرانيون شريعتهم الموسويّة. ولقد تناولت شريعة حموراب

http://m3rouf.mountada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى