m3rouf alkhoder
أهلاً بكم في المنتدى الخاص بمعروف الخضر يمكنكم تصفح الموقع ولوضع المشاركات يرجى التسجيل

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

m3rouf alkhoder
أهلاً بكم في المنتدى الخاص بمعروف الخضر يمكنكم تصفح الموقع ولوضع المشاركات يرجى التسجيل
m3rouf alkhoder
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
m3rouf alkhoder

منتدى شعري ثقافي

designer : yaser marouf email:y.a.s.e.r.94@hotmail.com

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

الجزء الأخير من قصة " فاجعة حب " يقلم الزعيم

اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

Admin


Admin

((ج.))

وما كدت أنتهي من تلاوة هذا الكتاب حتى أدركت صراعاً شديداً يجري بين نفسيتين الواحدة تنظر إلى مثال أعلى تريد تحقيقه والأخرى تنظر إلى المادة ولا تهمها مطالب النفس وقد استوقف نظري في هذا الكتاب عبارتان أولاهما قول المرسل (تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها) ففي هذه العبارة خشونة هي أقرب شيء إلى الوقاحة، ناهيك باستعمال لفظة (قضية) استعمالاً قزَت منه نفسي وأحسست أن الرجل يتكلم كلام من يريد القيام بمساومة تجارية مادية، أما العبارة الثانية فهي قوله (ودمتم)! أثار فيَّ هذا الكتاب عاصفة شديدة من الغضب وأخذت الخواطر تتوالى على مخيلتي، فأعدت الكتابين إلى سليم ونهضت من مجلسي وشرعت أتمشى في الغرفة وأخاطب صديقي فقلت له:

(إني أفهم الكتاب الأول تمام الفهم فإن عبارته المقتضبة تدلني على أن صاحبته كتبته في ساعة انفعال شديد، أما الكتاب الثاني ففيه ما ليس يشهد لصاحبه بصفاء السريرة وأعترف أني لا أفهم السبب الذي حمله على تسمية الأمر (قضية)، وقوله (حتى لم يعد يحسن السكوت عنها) يدل على و قاحة وخروج عن التفويض الذي يزعمه، لا أدري كيف أعلله).

(فتبسم سليم ببرودة وقال:

أما أنا فلست أرى فيه شذوذاً عظيماً عن القاعدة المتبعة في هذا المحبط وهذا الزمان، أفلم تختبر كيف أن الناس هنا لا يتركون كبيرة ولا صغيرة ممالا يعنيهم إلا وتدخلوا فيها، فهم إذا اجتمعوا بأحد الناس لم يكفهم أن يتعرفوا إلى شخصيته بل اندفعوا يبحثون عن جميع شؤونه العامة والخاصة، وهم لا يتوانون حتى يقفوا على كيفية معيشته بجميع دقائقها،كساعات أكله وشربه ونومه واستيقاظه ومقدار أرباحه وخسائره وكل ما له علاقة بحياته الخاصة.

ولست أدري كيف اكتسب قومنا هذه الصفة اليهودية الذميمة التي تجعل حياتهم منحطة انحطاطاً كبيراً يهب باحترام النفس وسائر المزايا الشريفة التابعة له).

(وماذا أجبت السيد ج.).

(لم أجبه بشيء فغداً الجمعة وقد عزمت على الذهاب عليه غداً في الموعد المضرب).

أعزمت حقيقة أن تذهب إليه؟

عزمت ولكن ليس من أجل أنا نفسي،ونظر إليَّ طويلاً ثم تابع: (ولا أرى مانعاً من ذهابك معي إذا أحببت).

فأطرقت هنيهة ثم قلت:

(لقد قبلت اقتراحك)

فمد يده إلي وقال (إذاً سأكون بانتظارك)

فصافحته بحرارة ووعدته بالمجيء، ثم ودعته وانطلقت وكلي أفكار وهواجس، لأني أشفقت عليه من مقابلة الغد التي تطيرت منها.

وفي اليوم التالي كنت عند سليم الساعة السابعة والنصف تماماً، وفي الثامنة تماماً نزلنا من العجلة أمام منزل السيد ج. في شارع م. فاستقبلنا الرجل في الباب وأدخلنا مسكنه الذي كان بسيطاً جداً وقادنا إلى غرفة داخلية كانت امرأته جالسة فيها فقدمني سليم إلى السيد ج. وامرأته وجلسنا، وزاد سليم على تعريفه إياي قوله: (إن السيد أ. صديقي الحميم وموضع سري) فكأنه أراد بذلك أن يطمئن صاحب الدعوة وامرأته فلا يمتنعان عن التحدث في الغرض من الاجتماع.

فلما استقر بنا المقام أخذنا في حديث عام في بعض الشؤون السياسية والاجتماعية، وظهر أثناء الحديث أن السيد ج. يتسرع في الفهم وفي الجزم بالأمور التي يتسع فيها مجال الدرس والاستقصاء، ولا بأس بأن أصفه وصفاً موجزاً فهو ليس من ذوي القامات الطويلة ولكنه يعلو عن متوسطيها قليلاً، أسمر البشرة ، مستطيل الوجه، أنفه دقيق، متقلص الجانبين قليلاً، تعلوه الجبهة، وعلماء الحيوان يستدلون ببروز القحف على قوة المراكز الغريزية الحيوانية، فهو على عكس بروز الجبهة وسعتها الدالين على قوة مراكز الذكاء والفهم، أما علماء التشريح فيضربون صفحاً عن كبر الرأس وشكله ويؤكدون أن دليل مقدار الذكاء والفهم والقوى المدركة يجب أن يكون في تعاريج الدماغ وتلافيفه، ولكن لما كان الوصول إلى معرفة مبلغ تعاريج الدماغ أمراً شاقاً لأنه يقتضي عملية جراحية خطرة وجب علينا أن نكتفي بالبراهين التي يقدمها لنا في نظر السيد ج. استقرار وإمعان يستدل منهما على تعمق ونضج ولا يوجد في وجهه تجعدات تنسم عن اختبارات شاقة في الحياة وهموم تابعة لهها، أما زوجه فكانت اقصر منه قليلاً مخروطة الوجه، دقيقة الشبح، بسيطة الهندام، وليس في مظهرها شيء غير عادي، والاثنان يتكلمان بلهجة الخبير المحنك.

وتطرقنا في الحديث إلى ذكر بعض شؤوننا القومية، فاندفع السيد ج. في الكلام على (السوريين)! هذه الكلمة (السوريون) كم نلوكها وكم نمضغها في كل مجتمع وكل حديث! آه كم نحن مغرمون بالكلام على قوميتنا السورية، فكل واحد منا يتكلم عن السوريين يصير فيلسوفاً وكل واحد منا يحاول أن يرقى إلى الفلسفة بنقد السوريين وإظهار مواطن ضعفهم،وقليلون هم الذين يعرفون قيمة الرصانة في هذا الموضوع، وأقل منهم الذين يدركون أن تحسين حياتهم وتقويم أخلاقهم أفضل كثيراً وأعظم نتيجة من الإكثار من نقد المجموعة والإنحاء عليه باللائمة ولعل القارئ تعب من كثرة ما سمع من الكلام في هذا الموضوع الدائم في حياته اليومية، ولكن لما كنت أريد أن أكون أميناً في روايتي لم أرَ بدلاً من تسجيل ما فاه به السيد ج. بهذا الصدد قال:

(السوريون فاسدون، فهم لا يقدمون على أمر إلى ظهر فيه فسادهم وعجزهم)، ووضع لفافة التبغ في فيه وبعد أن دخن حاجته تابع (الدليل على فساد حياة السوريين أنهم خالون من الفنون الجميلة ولا يعرفون قيمة المبادئ، ولولا ذلك لما كانوا قصروا عن بلوغ المراتب التي بلغتها الأمم الأخرى، لقد قلت هذا الكلام في مواقف متعددة وجميع الذين سمعوني كانوا يقولون أن الحق معي) وعاد إلى تدخين لفافته وهو يبتسم ابتسام المسرور من نفسه لوقوعه على اكتشاف خطير وبريق عينيه يدل على ارتياحه الشديد إلى ما يقول.

قلت: لا أعتقد أن شعبنا على ما تذكرون من الفساد، أجل يوجد فينا عيوب تهذيبية كثيرة ولكن نهضة إصلاحية مخلصة تكفل إزالتها.

قال: ومن أين يأتي الإصلاح؟ أين رجال الإصلاح: أين رجال الإخلاص؟ أين النوابغ؟ أين أهل العزيمة والإقدام؟ بل أين رجال التضحية؟ أنما تقولون رأي جميل ولكن الأمر عبث، عبث.

فأدركت الدرك الذي تحوم حوله أفكار الرجل ورأيت أن عدم الكلام خبر وأبقى ، فصمت وصبرت حتى بلغ السيد ج. منتهى ارتياحه.

وأخيراً انتهى هذا الحديث التمهيدي الذي كنت قد ابتدأت أشعر بملل منه وجاء دور البحث في (القضية)، فقال السيد ج. يخاطب سليماً.

(بما أننا أصدقاء عائلة الآنسة دعد ويهمنا مصير هذه الفتاة وبما أن والدها المتغيب في أميركا يعتمد علينا فقد أحبت أمها السيدة سلمى أن تستعين بنا في قضية العلاقات التي بينكم وبين ابنتها وكلفتني أنا وزوجي بمخابرتكم في هذا الصدد، وهذا هو القصد من دعوتكم إلى هذا الاجتماع كما تعلمون، فأرجوكم أن تكونوا صريحين معنا في الحديث الذي يدور بيننا لكي نصل إلى حل نهائي لهذه المسألة، ولا تسهوا عن أن السيدة سلمى تريد معرفة الحقيقة بكاملها لأن ابنتها عزيزة عليها جداً وهي حريصة جداً على مستقبلها وسعادتها).

فقلت في نفسي أن الرجل يتكلم بأسلوب وعناية، وقد بدأ لي أنه يريد أن يظهر الآن بغير مظهره في كتابه حين ذكر (تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها).

أما سليم فأجابه:

(وحقيقة أي أمر تريد السيدة سلمى أن تعرف)؟

- (إنها تريد أن تعرف مركزكم بالتمام ومقدرتكم المادية).

-(إذاً الأمر بسيط وقريب المتناول، فالسيدة سلمى تعلم وأنتم أيضاً تعلمون إني موسيقي اشتغل في نظم الألحان وصوغ الأنغام، وعدا ذلك أعطي دروساً في الموسيقى وموردي الحالي يكفي لمعيشة عائلة بسيطة ولي أملاك في غير هذه المدينة وآمل أن ينتج عملي الموسيقي خيراً في المستقبل، ولا أظن السيدة سلمى تجهل الغاية من علاقاتي بإبنتها فهي تعلم أمر حبنا ويمكنها أن تعلم الآن إني مستعد لعقد خطبتنا والتأهب للزواج).

فقالت السيدة ج:

من يعرفكم في هذه المدينة؟

فبادلني سليم النظر، ثم قال:

لا يعرفني جيداً هنا سوى صديقي السيد أ. وعائلة صديقي السيد حسني وعائلتان أخيران فلست هنا بين أهلي.

وقلت أنا: إن عائلة السيد سليم مشهورة بخدمة العلم والفن ولأفرادها ذكر في التاريخ وصديقي سليم يبذل من نفسه في سبيل فن جميل كبير الشأن في الهيئة الاجتماعية.

قالت تخاطب سليماً:

لقد سألت الكثيرين عنكم فكان الجواب واحداً وهو أنهم لا يعرفونكم ولكنهم يعرفون أنكم غريبو الأطوار!

فقال سليم: (أيجوز لي أن أسأل منهم الذين تفضلت بسؤالهم)؟.

- (سألت عائلة السيد ر. وعائلة السيد ح. وعائلة السيد س. وعدداً من الرجال الذين نعرفهم).

- ومن هم السادة المذكورون؟

- السيد ر. تاجر معروف في البلد والسيد ح. ماسك دفاتر فلي محل كبير ومركزه حسن والسيد س. تاجر آخر.

سليم: إني أجهل هذه العائلات تمام الجهل ومن البديهي أن لا تكون أهلاً لإعطاء معلومات عني، ولا أكتمك أيتها السيدة إنه بلغني أن الناس هنا يتقولون أهلي حالة لا يمكنهم أن يعللوها إلا بالسوء، ولكن الإنسان الحكيم لا يأخذ بظنون الناس، والناس إذا ساءت فعالهم ساءت ظنونهم ، أما أنا فلم أحفل ولن أحفل بهؤلاء الجماعة الذين يتحدثون عن غرابة أطواري لأني أعرف طباعهم وأعلم أن الناس في أكثر الأحيان أعداء لما جهلوا، وإني مرتاح إلى أن أطواري تخالف أطوار هؤلاء الجماعة والحياة التي أحياها تخالف الحياة التي تعودوها.

ولكن الناس يقولون أنه لم يكن بينكم وبين والديكم مراسلة في بادئ الأمر وإن المراسلة بينكما قد ابتدأت من عهد قريب.

فنظر سليم إليَّ نظرة ذكرتني حديثه السابق الذي ذكر لي فيه تدخل القوم هنا في شؤون الفرد الخصوصية، ثم التفت إلى السيدة ج. وقال:

(وما معنى ذلك)؟ ورأيت أن صبره كاد ينفذ.

قالت: يجب أن لا تغضبوا لأننا أحببنا الاستقصاء لمعرفة حقيقة أمركم فالي دفعنا إلى ذلك حرصنا نحن أيضاً على مستقبل دعد.

- إذن، حضرتك تعتمدين على كلام الناس.

- إننا لا نعرفكم كثيراً ولذلك نحن مضطرون إلى الاعتماد على ما نسمع.

- حتى ولو كان ما تسمعينه مما لا يوثق به؟

ورأيت أن الحال صائرة إلى ما لا تحمد عقباه،ولكن السيد ج. تدارك الأمر وقال:

الذي أراه يا سيد سليم، أن مركزكم لا يضمن مستقبل الفتاة التي تريدونها زوجاً لكم، ولما كانت السيدة سلمى تريد أن تضمن سعادة ابنتها الوحيدة فلا أعتقد أنها تسلم لكم بعقد الزواج، ولست أقول أن السيدة سلمى لا تفقه معنى العشق والغرام والهيام، إنها تعلم كل ذلك، ولكنها تريد الدليل على أن مركز من يتزوج ابنتها يكفي لإسعادها.

سليم: ومن يضمن المستقبل؟ بل من يضمن أن السعادة مقرونة بالمركز؟

فقالت السيدة: أما أنا فأرى أن الفن ليس عملاً ثابتاً كالوظيفة أو أكيداً كالتجارة.

فقال سليم أرى أن الحديث قد شط بنا عن الغاية ويحسن بنا أن نقف عند هذا الحد، وتكرموا بإبلاغ السيدة سلمى هذا الحديث وهي تتخذ الموقف الذي تراه أفضل.

وعلى إثر هذا الكلام ودعنا الزوجين وانصرفنا، فلما صرنا خارج المنزل تنفس سليم الصعداء، أما أنا فأقلت عليه ألومه على صراحته مع السيدة ج. وزوجه وأبديت له اعتقادي بأني لا أرى مبرراً لكثرة الكلام الذي قالاه، فقال: (لا تزد عليَ ما بي فقد كفاني ما لاقيته من هذه المساومة التجارية، وإذا كنت قد لبيت دعوة السيد ج فالمسؤولية واقعة عليَ).

قلت: أرى الأمور صائرة إلى شؤم.

- "إني بريء مما يفعل الناس، فهذان الزوجان يريدان أن يقيسا العواطف وشؤون الحياة الجديدة بمقاييس التقاليد القديمة، أولم تسمع السيد ج. يردد كلمات العشق والغرام والهيام لأنه لا يفقه شيئاً من معاني الحب النفسي الذي يربط قلبين على طول الحياة من أجل ما هو أسمى من جميع ما يتصوره هو والذين في دائرته، إنه ينظر إلى الحب من وراء شهوات الجسد، لا من وراء عواطف النفس، ويفهمها بعقله الغريزي، لا بعقله الوجداني، أنظر إليه وإلى زوجه كيف يحكمان عليَّ، لأني بعيد عن والدي أو لأنهما بعيدان عني.إنهما يريان فيَ شذوذاً عن عادة الشبان المتربين على التقاليد العتيقة الذين يعيشون في أحضان والديهم،يرتكبون ضروب الخلاعة والموبقات في الخارج ثم يعودون إلى حمى عائلاتهم يتحصنون وراءه،فلو عاش هذان الشخصان الشريفان في سيرهما على التقاليد الرتَّة البالية في عصر الموسيقى الخالد شوبرت فماذا كانا يحكمان عليه يا ترى؟

- وما هي حكاية هذا الموسيقي الذي تخفق لأنغامه العذبة ملايين القلوب؟

فاستجمع صديقي فكره وقال:

كان شوبرت ابن رئيس مدرسة فخرجه أبوه في العلوم الابتدائية والثانوية ثم أرسله إلى الجامعة للتخصص في أحد فروع العلم، ولكن شوبرت الصغير كان يميل إلى الموسيقى ميلاً شديداً وكانت نفسه مملوءة عواطف قوية فلم يجد لنفسه مهرباً من هذا الفن، فتابع في الجامعة دروسه العلمية إكراماً لأبيه وعكف في نفس الوقت على دروسه الموسيقية ثم عاد إلى أبيه الذي عينه أستاذاً في مدرسته ولم يشأن أني يكترث لميول ابنه الموسيقية، فنشأ عن ذلك إن الدروس التي كان يلقيها الأستاذ شوبرت الصغير كانت تتحول من دروس في العلم إلى دروس في الفن وصار يلقن تلاميذه مبادئ العلوم.

فاغتاظ أبوه من تصرفه هذا وطرده من مدرسته وبيته وخرج شوبرت الصغير إلى ساحة الحياة وحيداً، ليس له من معين إلا فنه، وكان لذلك العهد خامل الذكر، مجهولاً بين أهل الفنون، وكان مضطراً إلى تحصيل قوته اليومي فأخ في بادئ أمره يشتغل ضارباً على الباينو في بعض الحانات ومرت أيام مرَّة وصعوبات شاقة وذاق من العاب ألواناً، ولكنه انتصر أخيراً بمنظوماته الموسيقية التي تحول القلوب الحجرية إلى قلوب من لحم ودم، وأصبح شوبرت الطريد شوبرت المحبوب الخالد، أن في حكاية شوبرت لعظة لقوم يعقلون، ولكن الناس الخاملين تعودوا أن يقيسوا غيرهم بمقياس خمولهم والنتيجة تكون دائماً وأبداً غير ما يتوقعون.

لما بلغ سليم هذا الحد من الكلام كنا قد بلغنا ساحة المدينة الكبرى وهي محاطة (بالكبريهات) التي يرقص في كل منها عدد من الراقصات اللواتي اتخذن الخلاعة، لا الرقص فناً، فقال لي سليم: (تعال معي) فتبعته ودخلنا أحد هذه الكبريهات، فإذا المكان مكتظ بالشبان المجتمعين حول موائد صفَّت عليها الأقداح والكؤوس، وجوه مفعم بالدخان المتصاعد من لفافات التبغ العديدة وهواؤه فاسد سام، فقادني إلى زاوية فيها مائدة غير مشغولة فجلسنا إليها وجعلنا نراقب ما يجري، وإذا بشاب قد وقف بين جماعة من رفقائه كانوا جالسين بالقرب منا، وهو يحمل بيده كأساً ملآنة خمراً وصاح برفقائه:

يا رفقاء! اشربوا ولا تحسبوا! فأنتم اليوم مدعوي لأن الحسناء (غاري) ستكون لي الليلة)!

وتأملت الشاب فوجدته مضرج الخدين وعيناه محمرتان من تأثير الخمر والدخان ولباسه يدل على أنه من الذين أحوالهم المادية حسنة، وكذلك كان رفقاؤه ثم رأيته يأخذ ذراع فتاة كانت جالسة إلى جانبه ويقودها إلى ساحة الرقص التي في وسط المكان ووجهه يطفح حبوراً، فلما عاد من الرقص ملأ كأس الفتاة وكأسه وجلس يشرب ويسقيها، فقلت لسليم: (بئس الشباب شباباً هذا) فأجابني:

لا يا صديقي، لا تجدف! فإن هؤلاء من القوم المعروفين في المدينة، سل من شاء سجبك أنهم من أخيار الناس فلو كنت رفيقاً لهؤلاء في مثل هذه الليالي وعشيراً لهم لكانوا هم وعائلاتهم يشهدون لي لنيل رضى السيد ج. وزوجته! هلم نذهب فلست أطيق ضوضاء الجاز.

فرافقت سليماً إلى منزله حيث ودعته وعدت إلى غرفتي فكتبت مذكراتي اليومية وجلست أفكر في ما صار إليه صديقي من الضنى والنحول وما يكابده من الألم النفسي، ثم اضطجعت في سريري ونمت بعد هواجس جمة، وكنت في اليوم التالي مدعواً لحضور حفلة في بعض الأندية الاجتماعية فزرت سليماً أولاً فألفيته أسوأ حالاً مما كان بالأمس ولكنه كان هذه المرة جالساً إلى البيانو مكباً على عمله الموسيقي، فحادثته قليلاً وخليته وذهبت لحضور الاجتماع.

وكان النادي حافلاً بالعائلات وأكثر المجتمعين من الشبان والفتيات، وكانت هؤلاء مقرطات مسورات يرفلن بحللهن المتنوعة الأزياء، ولكن كان في وجوههن وعيونهن جمود غير طبيعي، جمود صيرهن شبيهات بالتماثيل الرخامية الباردة، الخالية من دلائل الحياة، وأكثرهن من اللائي ارتوت مفاصلهن وامتلأت أرعهن وسوقهن واسترخت جسومهن وترهلت حتى انعدمت فيهن دلائل النشاط ورشاقة الحركة ولطافة الجلسة، أما الشبان (أبناء العائلات فأكثرهن ممن نال حظاً وافراً من السمن والبدانة وبطء الحركة وبلادة الفهم.وكانوا مقسمين إلى جماعات يتهامس أفرادها وهم يحدجون الفتيات الفاترات العيون بأنظارهم المتقدة، وما لبثت أن تبينت بينهم ذلك الشاب الذي كان بالأمس يشرب نخب الراقصة الحسناء (غاري) في كبريه.. وهو في ثياب المساء، وألحاظه متجهة نحو إحدى الفتيات اللواتي عليهن مسحة من الجمال، وكانت هذه جالسة في حلقة من أترابها تشعر بنظراته وتتكلف التيه والدلال.

وما كدت أفرغ من تبين وجوه الجماعة والاطلاع على أحوالهم حتى رأيت السيد ج. وزوجه داخلين ورأيت أحد الشبان يسرع إلى ملاقاتهما، وكان هذا الشاب في العقد الثالث من العمر، بديناً، بطيناً، متداخل الخلق لا تقل قامته عن قامة السيد ج. طولاً، ووقعت عين السيد ج.عليَ فلم يبق لي من محيد عن السلام فأقبلت عليه وصافحته وامرأته، وعرفاني بالشاب الذي لاقاهما وهو يدعى السيد ميخائيل ثم جلسنا معاً فأخ الشاب في محادثتي فقال:

(لقد سبق لي أن سمعت باسمكم وإذا لم تخني الذاكرة كنتم قادمين من أميركا).

- نعم.

- ماذا كنتم تعملون في أميركا؟ ثم أردف (ليس من شأني أن أوجه إليكم مثل هذا السؤال ولكن اسمحوا لي بذلك فإني أسألكم كما اسأل صديقا لي).

فقلت في نفسي (إن الرجل يوليني نعمة زائدة) وكدت أجيبه بما تستحقه الوقاحة الظاهرة في سؤاله ولكني كظمت غيظي مراعاة للموقف وأجبته:

- كنت أبحث عن الألماس.

- وهل وجدتم كثيراً منه.

- كثيراً.

- وماذا فعلتم به؟

- أخزنه لحين الحاجة.

- ولماذا لا تبيعونه؟

- لأني انتظر ارتفاع ثمنه.

- أتعجب كثيراً من أمركم! فلماذا عدتم إلى هذه الديار؟

- إن في ذلك لسراً!

- لابد أن يكون الأمر كذلك إذ لا أجد مسوغاً لرجوعكم، وماذا تتعاطون هنا؟

- أثقب اللؤلؤ وأجمع الفراش!

على إثر الجواب رأيت وجه هذا الرجل يحمر ثم يمتقع، وأخذ يجيل عينيه محملقاً كالحائر وظهر أنه ابتدأ يدرك عبثي به، والظاهر أن السيدة ج. أدركت هي أيضاً معنى أجوبتي فتدخلت في الحديث وخاطبتني.

ولكن الحقيقة يا سيد أ. أن المرء ليحار في أمر وجودكم هنا فلقد سئلت وسألت أنا بدوري عن سبب ذلك ولكن الحقيقة ظلت مجهولة، فهلا صدقتني وأطلعتني على ما حدا بك إلى ترك تلك الأمصار الغنية الواسعة والتخلي عن كل ما فيها من أسباب الراحة والسرور والعودة إلى هذه البلاد المسكينة؟؟

فوجدت في هذا السؤال سذاجة وبلاده يقف المرء أمامها حائراً مبهوتاً، ولكني تذكرت أن المرأة التي تكلمني هي إحدى بنات قومي فكان ذلك كافياً لحملي على احترامها، فتغلبت على سأمي من هذا الحديث الذي يمس كرامة الإنسان في حريته الشخصية وحياته النفسية ومبادئه الفكرية وأجبت السيدة بصراحة:

إن هذه البلاد المسكينة هي بلادي وإن لي فيها مطلباً أعلى قد عدت لتحقيقه.

فصاحت السيدة ج. وزوجها والشاب ميخائيل بصوت واحد: (آه؟ مطلباً أعلى)؟! وبعد أن تبادلوا فيما بينهم نظرات تدل على استغراب قالت السيدة بلهجة فاترة:

(أمن أجل مطلب أعلى عدتم)؟

(نعم يا سيدتي من أجل مطلب أعلى).

وعاد الثلاثة إلى تبادل نظرات تنم عن الاستخفاف فندمت على صراحتي وعقدت النية على أن أعود أدراجي في الحال، وزاد في مللي ذلك الجمود القسري الذي ألقى على الاجتماع ظلاً من البلادة ثقيلاً فاستسنحت الفرصة وتركت القوم في لهوهم الممل ورجعت من حيث أتيت، فلما أمسيت في غرفتي واستلقيت على سريري عادت الخواطر تزدحم في مخيلتي وفكرت ملياً في أحاديثي مع صديقي سليم وفي الآمال التي عقدناها معاً على نشوء روح جديدة في الأمة تحدد حياتها وتقوي حيويتها وتنصرها على عوامل الخمول والجمود، وفيما أنا كلك إذا بي أسمع ذلك الصوت النسائي الفاتر مقترباً متكرراً.

(أمن أجل مطلب أعلى عدتم)؟

فصممت أني لكيلا أسمع ولكن الكلمات ارتسمت أحرفاً بارزة أمام عيني، فأطبقتهما، وبعد عراك داخلي عنيف استولى عليَّ الوسن ولم أعد أعي شيئاً.

وعندما استيقظت في صباح اليوم التالي شعرت بصداع شديد لما ساورني من الأحلام المقلقة أثناء هجوعي، ولكني ذكرت سليماً فجزعت عليه ورغبت في أن أعرف حاله، فنهضت وتحممت بالماء البارد، على جاري عادتي، وروقت ضيقة النفس بكوبة شاي وأسرعت بالذهاب إلى منزل صديقي، وكانت الساعة نحو الثامنة، فوجدته جالساً إلى طاولته الصغيرة وأمامه وريقات يكتب عليها، ولاحظت أنه في هذه المدة أكثر سكوناً وأشد نحولاً من ذي قبل فحييته واقتربت منه ووضعت يدي على كتفه فلم تقع إلا على عظام، فوجف قلبي والتفت إلى البيانو فوجدت الأوراق كما كانت منذ يومين، فقلت:

هل تكتب رسائل الآن؟

- لا.

- ماذا تكتب إذاً؟

- فقال: لا أدري ماذا تسمي هذا النوع من الكتابة وأشار إلى وريقتين أمامه، فتناولتها فإذا عليهما شعر منثور هذا نصه:

إذا انبثق الفجر وبزغت الغزالة

وفتحت عينيك للنور

ورأيت الأزهار تنشق عنها أكمامها

وتنشر في الفضاء عبق أريجها

إذ نركض ونقفز وفي قلوبنا اختلاج!

فاذكري زمناً كان لنا ربيعه

لقد مضى ذياك الربيع وهذا الربيع ليس لنا

فأزهاره غير أزهار ربيعنا

وفجره غير فجرنا

أما المرح والددن فشيء كان

لا. لا تذكري شيئاً مما مضى!

لا تنبهي الأحلام!

الحب وهم؟

هكذا يقولون

فإذا اضمحل الحب فماذا يبقى من الحقيقة؟

حب يذهب مع المساء وآخر يجيء مع الصباح.

فيجب أن لا يقام للحب عهد؟

كذا يقول الجاهلون

لأنهم لا يعرفون

أن

في الحب الجديد

بقية مرة

من حلاوة الحب القديم!

اللهم،

إلا إذا كان القلب حجراً

فحينذاك لا فرق

بين حب قديم

وحب جديد!

هذا هو الحد الذي كان سليم قد بلغه قبل قدومي، ولعله كان يريد أن يسترسل في أنفاق عواطفه عن هذه الطريق بدلاً من طريق الموسيقى، فقمت إلى البيانو وأخذت عنه ورقة السلالم الموسيقية التي كان سليم قد سجل عليها بعض ما ابتكره من الأنغام ليضيفها إلى الأوراق الأخرى المفروغ منها تتمة للقصيدة الموسيقية التي كان عاكفاً على نظمها، وبعد أن تمعنت في الأنغام المسجلة عليها قلت:

إنك في شعرك كثير الرقة والشجو، ولكنك في موسيقا كأرق وأشجى، فإذا عدلت الآن عن نظم الموسيقى إلى إنشاء الشعر فمن ذا يقوم بإنجاز ما بدأته؟ وماذا يكون شأن المطلب الأعلى الذي نظرنا إليه جميعاً؟

فزفر زفرة كادت تكون زحيرا وقال:

إنما أردت من هذه الكلمات التي كتبتها أن أجعلها أساساً أدبياً لشجوية موسيقية أروم نظمها لتعبر عن العواطف التي تتضمنها.

قلت: ولكني أراك نحيلاً جداً وأعتقد أنك تحتاج إلى الراحة واستبدال الإقليم.

قال: وماذا يفيد استبدال المكان والانقطاع عن العمل والمسألة ليست مسألة جسم بل مسألة نفس؟ فالنفس لا تحيا باعتدال الإقليم ولا بتبديل الأجواء ولا بارحة الجسد، أن النفس تحيا بالعواطف فإذا قتلت العواطف فكأنك قتلت النفس ذاتها ولا يقتصر ذلك على الأفراد بل يتناول الأمم أيضاًُ فإذا عدمت الأمة الشعور الحي فك أنها عدمت وجودها، والشعب الذي يقتل شعور بنيه يقتلهم قتلاً، أنظر إلى هؤلاء الجماعة الذين يبحثون عن حياة الجسد ويهملون حياة النفس وقل لي ماذا ترى في حياتهم؟ أترى شيئاً غير الخمول يفضلونه على تحمل مشقة النهوض، وغير الجبن يحتمون وراءه لكي يجابهوا مطالب الحياة العليا وما يصحبها من جهاد يضني الجسد؟ هل لا تراهم يقتلون أنفسهم خوفاً على أجسادهم؟ أو يعني الحب عندهم شيئاً تعلو على حاجة الجسد؟ جردهم من كل كرامة أخلاقية ومن كل محبة نفسية ومن كل عاطفة سامية فذلك أهون عليهم من أن تهان جسومهم، آه كم تؤلمني هذه الحقيقة.

فأعدت ورقة السلالم الموسيقية إلى مكانها ولزمت الصمت لأن عبارات صديقي كانت كأنها صدى أفكاري وشعوري، ورأيت أنه يحتاج إلى ما ينعش قوته فقلت (هل تأمر لي بكوبة شاي)؟ فقال: (بطيبة خاطر) وأرسل يأتي بذلك، فلما جاء الشاي جلسنا نشرب وشرعت أحدثه في أمور من شأنها أن تسري عنه، وبعد أن انتهينا ودعته وتركته ليعود إلى تأملاته التي تمليها عليه نفس شديدة الإحساس، عظيمة الشعور وعدت إلى منزلي كسيف الوجه جزما.

وفيما أنا جالس في غرفتي أتأمل في حال صديقي خطر لي أن أزور السيدة سلمى أم الفتاة دعد لأعرف موقفها من (القضية) فانتظرت إلى المساء ثم ذهبت إلى منزل سليم أولاً ودخلت عليه فوجدته يبدل ثوباً بثوب ويستعد للخروج، فسألته إلى أن يقصد فقال (إلى بيت دعد لأن أمها تريد محادثتي) فقلت (ألا سبيل للذهاب معك)؟ فقال (نعم، لا سبيل إلى ذلك).

- إذاً استحلفك أن تطلعني على ما تقوله الأم.

- (سأفعل) وخرج على الأثر.

وفي اليوم التالي قصّ عليَ سليم ما قالته الأم ومفاده أنها تريد سعادة ابنتها وإنها لهذا السبب، لا تقبل أن يكون زوج ابنتها موسيقياً ليس له منصب ثابت! وأنه إذا كان يريد ابنتها زوجاً له فعليه أن يتخلى عن عمله الموسيقي ويوجد لنفسه عملاً يزيد أرباحه.

قلت (إن الأم تردد أقوال السيد ج. وزوجه) فقال: لابد أنه تشاوروا وقرروا (إسعاد) دعد كما يفهمون معنى السعادة، ولابد أن يكون السيد ج. وزوجه قد أظهر للسيدة سلمى سخافة عقولنا، نحن معشر النفسيين ذوي المطالب العليا، وأطلعاها على حكمتهما البالغة القائلة أن الحب مجرد عشق وغرام وأن العشق والغرام فورة عارضة تزول سريعاً، إلى آخر ما لهما من آراء تدل على مبلغ ما يعرفانه من الأهواء الجسدية ومبلغ ما يجهلانه من العواطف النفسية، وهذان هما الصديقان الوحيدان اللذان تعتمد عليهما أم دعد ثم أردف (ولكن يجب أن لا يلوم المرء السيدة سلمى فهي تجهل نفسيتي ولا تعرف إلا ما يقوله لها صديقاها الوحيدان وهي فوق ذلك أم أو متى كان حولها قوم هم لحسبان الشر أولاً وحسبان الخير آخراً فقلبها لا يقوى على مقاومة سعايات الناس).

قلت: ودعد؟

فوجم وأطرق هنيهة ثم قال:

(أخشى أن أحملها فوق ما تحمل، ولاشك في أنها تتألم من جميع ما حدث لي ومن الكتاب الذي أرسلته طالبة إليَّ أن لا أعود إلى زيارتها وما أظن أنها أرسلته إلا مرضاة لأمها التي هي وحيدتها وإني لا يخامرني أدنى شك في محبتها وإخلاصها لي، وقد مضت كل هذه المدة دون أن أحظى بلقياها حتى صرت أخشى أن تكون مريضة وأن تكون أرسلت إلى مدينة أخرى ظناً بأنها تسلو وتنسى، وهل تعلم أن شاباً يدعى ميخائيل يصبو إلى طلب يدها وأن السيد ج. وزوجه يهرفان كثيراً به وبمركزه عند أمها)؟

فقلت (نعم أدري) ولم أشأ أن أخبره بخبر الشاب ميخائيل وعائلة السيد ج. في حفلة النادي لئلا أزيده ألماً على ألم، فتحول عني إلى البيانو، ورأيت أنه يريد أن يخلو بنفسه فودعته وخرجت مسرعاً،وما كدت أبلغ الشارع حتى طرقت أذني أنغام موسيقية رقيقة خارجة من غرفته.

ومنذ ذلك اليوم صرت أجيء إليه كلما فرغت من عملي فأصرف عنده بضع دقائق أحادثه وأحاول تسليته، ولكني كنت كل مرة أتيته أجده أضنى جسماً من المرة السابقة لأنه كان لا يطلب الطعام وإذا جيء به إليه تذوقه تذوقاً فقط، كان يذوي كما تذوي الزهرة منع عنها الماء، فبذلت أقصى جهدي لمعرفة مقر الآنسة دعد لأني كنت على يقين من أن كتاباً ترسله إليه يكفي لإحياء ميت آماله وإنعاش قلبه ولكن محاولاتي ذهبت أدراج الرياح.

وحدث ذات يوم إني زرته فألفيته صريع حمى شديدة فاستحضرت له نطس الأطباء الذين لم يألوا جهداً في معالجته ولكنهم لم يوفقوا إلى شفائه، وبينما هو في غيبوبة، إذ ورد كتاب مرسل إليه فأخذت الكتاب وقلبته بين يدي وتمعنت في خطه فعلمت أنه خط نسواني وتبينت أنه آت من مدينة ب... ورأيت أن أفتحه لأعلم ما فيه لأني كنت الوحيد الباقي بقرب سليم والوحيد الذي يجوز لي أتيان مثل هذا الأمر ففتحت الكتاب وقرأت:

عزيزي سليم:

أكتب إليك الآن من هذه المدينة التي أرسلت إليها بقصد إبعادي عنك، لكي أسألك الصفح عن الإساءة العظيمة التي وجهتها إليك في كتابي الأخير، فقد بلغني ما تكابده الآن رغم أن أهلي والدائرة المحيطة بي يحاولون جهدهم لمنعي من تنسم أخبارك ومعرفة ما هو جار لك، آه لو تدري كم عانيت من الآلام بسبب الكتاب الذي اضطررت إلى إرساله إليك وكم أعاني الآن من أجل ما أنت فيه.

علمت أنك زرت السيد ج. وأنا موقنة بأنك إنما فعلت ذلك من أجلي ومن أجل المطلب الأعلى الذي جمع قلبينا ووحدهما في سبيل مبدأ يسمو على جميع ما يعتقدون وما يوقنون، ولكن تشجع! فإنهم لن يحولوا بين أعيننا والنور، فالنور لا تمنعه الظلمة إنهم يريدوننا أن نكون مجرد أجسام- مادة لا تطلب إلا مادة، أما نحن فنشعر إن لنا أنفساً ونحس ما تصبو إليه نفساناً، فإذا اضمحل هذا الشيء الذي نشعر به فما هي السعادة التي تبقى لنا؟ أنهم لا يدرون أن تعب النفس لأعظم كثيراً من تعب الجسد لذلك يبحثون عن راحة جسدي أما راحة نفسي فلا يأبهون لها.

سليمي العزيز، أصفح عني لما أكون قد سببته لكمن الآلام وثق بأني لم أقصد شيئاً من ذلك،وإن كل قصدي كان أن أحول دون حدوث ما قد حدث وأن أتحمل الآلام وحدي، لأني أعلم كم تحتاج إلى راحة البال في عملك الشاق، تشجع! فقريباً أكون قريبة منك أما الآن فلك سلام محبتك.

((دعد))

كنت أقرأ وأنا أشعر بأني أكاد أطير فرحاً لورود هذا الكتاب الترياقي العبارة، ولكن لما فرغت منه وتحولت إلى السرير لإيصال البشرى إلى صديقي انقبضت نفسي أيما انقباض لأني وجدته قد زهف إلى التلف ولم يبق منه إلا رمق ضعيف وذماء قصير، فطويت الكتاب ووضعته في جيبي، وبعد قليل قضى سليم وانتهى ذلك العراك الهائل الذي كان ثائراً في داخله بين مثاله الأعلى وأغراض الناس الأولية المنحطة، بين مرامي نفس كبيرة ومرامي نفوس صغيرة، بين المطلب الإنساني الأولي والمطلب الحيواني الأدنى.

فلما أعلنت وفاته أقبل نفر من الأصحاب الذين عرفوه واتصلوا به في حياته، وكانوا قلائل، وبعض تلاميذه الذين كانوا، يدرسون الموسيقى عليه، أسود بسيطاً وذهبت تواً إلى السرير ووقفت تنظر إلى جثمانه بعينين مغرورقتين، ثم مدت يدها وأمرتها على جبينه ووجهه وفاضت من عينيها دموع سخية، كانت هذه الفتاة دعد وكان الحاضرون أثناء هذا المشهد واقفين صامتين كأن على رؤوسهم الطير.

أخيراً هدأت دعد روعها ومسحت عينيها بمنديلها وتحولت عن السرير وجعلت تجيل نظرها في الحضور حتى استقر أخيراً عليَّ فتقدمت غليها وخرجنا من الغرفة، فقالت: (أصدقني كيف كانت أيامه الأخيرة وكيف مات)؟

كانت أيامه الأخيرة أيام شؤم وعذاب أليم، أن الصدمة كانت عنيفة جداً لنفسه الرقيقة الشعور، فقد خيل إليه أن مطلبه الأعلى قد اضمحل وكان تأثره عظيماً جداً، وزاد في عذابه أن بعض الناس هنا أضرموا جحيماً مادياً حول نفسه حتى ضاق رعا واستولت عليه من جراء ذلك حمى مطبقة قضت عليه.

(أو لم يرده كتابي)؟

(كان ورود الكتاب ساعة دخوله في طور النزع، وهذا هو) ودفعت الكتاب إليها فتناولته وهطلت من عينيها دموع غزيرة مسحتها بمنديلها ووضعت الكتاب في حقيبتها.

وكان الجثمان قد وضع في التابوت فسرنا إلى الجبانة وأوريناه التراب وسط صمت تام، ثم انفرط عقد الجماعة وتفرقوا، ولزمت أنا الآنسة دعد فقالت لي في الطريق: (هل يمكنني أن أعتمد عليك)؟

(بكل تأكيد).

إذاً أريد أن أذهب برفقتك إلى غرفة سليم، لأني أريد أن أقف على ما ترك من آثار موسيقية.

فقلت: (كما تريدين) وذهبنا معاً إلى الغرفة وقدتها إلى البيانو، فوجدنا عليه أوراق سلالم موسيقية تتضمن شجوية صغيرة كاملة، وإلى جانبها ذلك الشعر المنثور الذي ذكرته فيما تقدم، فتناولت دعد المنظومة الموسيقية أولاً وفحصتها وللحال أدركت رقة أنغامها وظهر عليها أثر انفعال نفسي شديد ولكنها تجلدت وتناولت الورقتين المكتوب عليهما الشعر فما قرأته إلى آخرة حتى تأثرت تأثراً لم تعد تقوى معه ركبتاها على الثبات وكادت تهوي إلى الأرض لولا أني أسرعت إلى إسنادها واقتيادها إلى المقعد بجانب البيانو فمددتها عليه وبادرت فأتيتها بكأس ماء بارد فسقيتها منها، ورششت الباقي على وجهها فساعدها ذلك على مقاومة الإغماء ولما عادت إليها قواها نهضت وعادت إلى الأوراق فجمعتها فأخذت دعد الأوراق التي كانت فيه وهي تشتمل على القسم الأول من منظومته الكبرى وجعلت الجميع رزمة واحدة وقالت:د

(سآخذ هذه الأوراق جميعها).

قلت: لك ما تريدين فليس من يطالب أو يعتني بها.

قالت: (أشكرك كثيراً، والآن أودعك وقد نلتقي فيما بعد) فمددت يدي فصافحتني بشدة الممتن وشيعتها إلى الباب فانطلقت مسرعة لا تلوي على شيء، أما أنا فعدت إلى داخل المنزل وقلت لربة البيت أنه يمكنها أن تستولي على كل المقتنيات التي خلفها الراحل لأنه ليس له وارث، ثم ألقيت نظرة أخيرة على الغرفة التي كان يشغلها صديقي والبيانو الذي كان يضرب عليه أنغامه وانصرفت من ذلك المكان ولم أعد إليه منذ ذلك اليوم.

رجعت، بطريقة آلية، تواً إلى غرفتي وانطرحت على سريري معيي وأخذت أفكر في أيام صديقي الأخيرة والنهاية التي صار إليها فذكرت حديثه لي عن الموسيقى وشأنها في حياة الأمم البشرية جمعاء، وحكاية شوبرت، واستعدت في ذهني جميع تصرفاته السابقة واللاحقة، منذ أول يوم عرفته إلى آخر يوم، فشعرت أني خسرت صديقاً يندر مثله، وإن الأمة فقدت رجلاً تمثلت روحها في روحه، وجمعت عواطفه أدق وأجمل عواطفها. وهو لو عاش لأتم

فعل ما لم يفعله شخص آخر من أبناء هذه الأمة إلا وهو إحياء نفسها.

وانتقل بي الفكر إلى دعد، تلك الفتاة الجميلة النفس الكبيرتها فقلت في نفسي: أترى يفقه السيد ج. وزوجه شيئاً مما في نفسها العميقة؟

لقد مرت على وفاة صديقي سليم عدة سنوات وقد قضيت هذه المدة مغترباً في أوروبا وأميركا، وأول عمل قمت به بعيد عودتي أني نزلت مساء اليوم الأول لوصولي إلى العاصمة إلى ساحة المدينة المركزية وأخذت أتنقل بين كبرياتها لأرى هل طرأ تغير على حياة القوم، فوجدتهم كأني لم أفارقهم إلا ليلة أمس، ولكني رأيت هذه المرة وجوهاً جديدة لم أكن قد رأيتها من قبل.

دخلت إحدى هذه الكبريهات عند الساعة الحادية عشرة واتخذت لنفسي مجلساً منفرداً أستطيع أن أرى منه كل مكان وأراقب جميع ما يجري، وبينما أنا مهتم بمراقبة تحركات بعض الشبان في إحدى الزوايا إذا برهط من الرجال تقدموا إلى المكان الذي كنت فيه وأخذوا مائدة محاذية لمائدتي فتفرست في أوجههم من حيث لا يشعرون، وكدت لعجبي لا أصدق ما أرى حين تبينت بينهم وجه ميخائيل صديق عائلة السيد ج. فوجدته قد تغيرت سحنته قليلاً وازداد سمناً وكان من حسن حظي أن ميخائيل جلس منحرفاً قليلاً وصار من الصعب أن يلتفت نحوي ويرى وجهي فأخذت أدرسه من حيث لا يدري، وكان يدفعني إلى العناية بدرسه رغبتي الشديدة في درس حالات الأشخاص النفسية وتطوراتهم العقلية وفي معرفة ما طرأ على هذا الرجل من التغيرات الأخلاقية بعد غيابي عنه كل هذه المدة الطويلة.

دار حديث مخيائيل وزمرته حول الراقصات وجمال كل واحدة منهن وصفاتها وتاريخ حياتها فعدوا لا أقل من عشرين راقصة في مدة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة!

فلما بلغوا الحادية والعشرين قال أحدهم لميخائيل:

(إنك كنت سعيد الجد يا ميخائيل، فلم ينل تلك الفتاة أحد سواك، وهي والحق يقال، كانت من أجمل الراقصات اللواتي أممن بلادنا، قل لي كم من الزمن صرفت معها)؟

فقال ميخائيل، وهو يتيه عجباً بنفسه ويلقي الكلام كمن يلقي على من حوله درراً ثمينة دون أن يكترث لها:

(ثلاث سنوات بكاملها، ولو أني قدرت أن أحتفظ بها أكثر لفعلت، أن برتا الفتاة الوحيدة التي أحببتها حقيقة، أو تدري يا حسني أن برتا كلفتني خمسماية ليرة عثمانية ذهباً)؟

فقال ثالث (ماذا أسمع؟ قل لي يا بيك يا ميخائيل، من أين جاءك الوحي الآن لتتكلم عن الحب)؟

فأجاب (الصحيح أني عشقت برتا حتى أني قاومت بنفوذي دائرة التحري بأمها وأبيها، من أجلها) قال ذلك بلهجة ملؤها الخيلاء والإعجاب بالنفس

وأردف (أنتم لا تدرون، يا صحاب أن برتا لم تكن ككثيرات من هؤلاء الراقصات، إنها لم تكن قد أحبت أحداً قط، وأنا أول رجل أحبته) ودق على صدره توكيداً لما يقول (إنها أحبتني كثيراً ولا تزال تحبني، فقد كتبت إليَ مؤخراً تقول أنها لو تمكنت من جمع أجرة السفر لما تأخرت عن المجيء إلي وقد شكت ما هي عليه بلادها من الفاقة وقلة العمل، ومما يدلني على حبها الشديد لي أنها أرسلت إلي في عيد ميلادي زرين من الذهب مرصعين بحجرين كريمين، فكم تكون اشتغلت وقترت على نفسها في مثل هذه الأحوال لتقدم لي هذا التذكار)؟

فقهقه رابع وقال: (طبعاً أن خمسماية ليرة عثمانية ذهب تستحق حباً شديداً في مثل هذه الأيام ولا غرو أن تكون برتا مشتاقة جداً إلى العودة إليك)!.

وقال خامس، وكأن كل هذه المدة صامتاً هادئاً (إذا كنت عشقت برتا وكان الأمر كما تقول فلماذا لم تتزوجها)؟

فأجاب ميخائيل بحدة: (أتزوجها؟ ها.ها. اسمعوا ولماذا أتزوجها)؟

(لأنك كنت أول من استولى على قلبها، وأنت تعترف بذلك والإنسان الشهم لا يستولي على قلب امرأة ليقذف بها إلى الحمأة).

(قد كنت أحسبك فتى عاقلاً، يا فريد، فما بالك هذا الهذيان، أتريد مني وأنا ابن عائلة معروفة في المدينة أن أتزوج برتا الراقصة؟ نعم إني اعترف بجريمتي فقد أجرمت وانتهى الأمر ولكن من كان مثلي ابن عائلة لا يتزوج مثلها.

ولا تنس إن لي أخوات في البيت).

أعتقد أن وجود أخواتك سبب قوي يكفي لحملك على تزوج برتا، وما يدريك أن هذه الفتاة ليست ابنة عائلة أناخ عليها الدهر؟

فحملق ميخائيل بعينيه وأدار رأسه يميناً وشمالاً ثم استجمع ما له من حدة ذهن وأجاب:

(أنت لا تعرف مركزي جيداً فأنا إنما اشتغل لحسابي الخاص باسم عائلتي، فلو تزوجت برتا لنقم عليَّ أهلي وخسرت تأييدهم المعنوي وخسارة هذا التأييد تعني خسارة ثقة مالية بي توازي ثلاثة آلاف عثمانية ذهباً، وفوق ذلك أعلم أن الحب غشاوة رقيقة لا تلبث أن تتخرق وتتبدد فخير لي أن أتزوج ابنة عائلة معروفة هنا).

فرأيت الشاب المدعو فريداً يهم بالإجابة على خطاب ميخائيل ولكن ضجة عظيمة علت في هذه اللحظة في الزاوية التي كنت أراقبها أولاً واستلفتت أنظار الحضور ومن جملتهم ميخائيل ورفقائه، فلما وجدت الحديث قد انقطع ولم تبق لي حاجة إلى زيادة، دفعت ثمن مشروبي وخرجت، وأنا أفكر في ابن العائلة هذا وفي أبناء العائلات الذين على شاكلته.

أما دعد فقد التقيت بها بعد أيام فإذا هي لا تزال كما عرفتها أولاً: تسير في الشارع غير ملتفتة إلى أحد ولا ملوية على شيء، تقوم بعملها بكل دقة وترتيب إلا أنها تتجنب الاجتماعات وإذا اتفق إن حضرت بعضها فإنها تحضرها بوجه جاف وهيئة جدية فلم يرها أحد قط ابتسمت في اجتماع، والناس يقولون أنه لولا عبوستها وجفاف وجهها لكانت فازت بعريسها!

وأما السيد ج. وزوجه فقد علمت أنهما حنقاً حنقاً عظيماً على دعد لأنهما لم يكونا يتوقعان منها هذه الأطوار الغريبة التي خالفت نظريتهما في الحياة وخيبت آمالهما والجهود الكبيرة التي بذلاها لحملها على قبول ميخائيل، التاجر المعروف، بعلاً لها ولأنها أنكرت جميلهما لاجتهادهما في إنقاذها من حب شاب موسيقي مات سريعاً على أثر إصابته بحمى مطبقة!

http://m3rouf.mountada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى