m3rouf alkhoder
أهلاً بكم في المنتدى الخاص بمعروف الخضر يمكنكم تصفح الموقع ولوضع المشاركات يرجى التسجيل

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

m3rouf alkhoder
أهلاً بكم في المنتدى الخاص بمعروف الخضر يمكنكم تصفح الموقع ولوضع المشاركات يرجى التسجيل
m3rouf alkhoder
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
m3rouf alkhoder

منتدى شعري ثقافي

designer : yaser marouf email:y.a.s.e.r.94@hotmail.com

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

الجزء الأول من قصة "عيد سيدة صيدنايا " بقلم الزعيم 1931

اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

Admin


Admin

يد سَيدة صَيدنايا - قصة بقلم أنطون سعاده
الأحد, 19 آب 2007
قصتَان :عيد سَيدة صَيدنايا فاجعة حب


مقدمة المؤلفْ



إن الغرض الذي وضعته نصب عيني والقصد الذي رميت إليه حين شعرت بدفع داخلي يدفعني إلى تأليف القصص كانا: تصوير حياتنا الشعبية واستخراج دروس قومية واجتماعية منها، بل أني شعرت بدافع يدفعني إلى هذا الغرض وهذا القصد كالدافع الفني الذي حدا بي إلى إنشاء قصتي عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب، أي أن الغرض والقصد المذكورين لم يكونا هما الدافع الذي حملني على مكابدة الأدب القصصي، ولو كان الأمر كذلك لما وجدت مبرراً للإقدام على هذا العمل الشاق واتخاذ هذه الخطوة الخطيرة.

بنيت القصة الأولى على مشاهدتي الشخصية في عيد سيدة صيدنايا المشهور الذي حضرته للمرة الأولى سنة 1930 فجاءت قصة بسيطة الموضوع الحيوي إلا أنها دقيقة الموضوع الفني، غنية بمظاهر الحياة الشعبية، ويرى القارئ أني قد انتخبت لبطولة هذه القصة شخصاً نادراً جهزته الطبيعة بمزاج قوي وتركب فيه خلق خاص فهو رجل وحده، مستقل بذاته استقلالاً نفسياً يفرده عنا حتى أننا كثيراً ما نسيء اختباره وفهمه، ولكني لم أجتهد أن أجعله رجلاً خارقاً خارجاً عن حدود الرجال الطبيعية أو شخصاً خيالياً يستحيل أن يوجد في عالمنا هذا أو في محيطنا القومي، بل أني اجتهدت كثيراً في انتقائه من بيئتنا فهو شخص منا وحي من أحيائنا وقد عنيت عناية خاصة بوصف المكان والزمان اللذين حدثت فيهما القصة وتصوير المظاهر الشعبية التي رافقت حوادثها، فالدروس التي تتضمنها قصة عيد سيدة صيدنايا هي دروس في شخصية أحد أفراد الشعب وفي مظاهر الشعب العادية لا في المواضيع النظرية والفلسفية.

أما القصة الثانية فهي ذات موضوع حيوي دقيق له علاقة كبيرة بحياتنا الاجتماعية وآدابنا القومية، ويتناول موضوعها كبرى قضايا حياتنا الاجتماعية والقومية العصرية: الصراع بين عهد الخمول وعهد التنبيه والنهوض، العراك





بين الأنانية والخير العام، بين المادية الحقيرة والنفسية السامية، بين الحيوانية والإنسانية، بين الرذيلة والفضيلة، وبطلها (سليم) شخص ذو نفس فنية شعرية حساسة إلى الدرجة القصوى، كما بينت ذلك في بداءة القصة.

ضمنت فاجعة حب انتقاد بعض عاداتنا وتقاليدنا القديمة ونظرة في بعض نواحي حياتنا الاجتماعية العصرية وبعض المسائل النفسية والمثلية، وقد تناولت فيها، عدا البطل، أشخاصاً آخرين كالسيدة ك. والسيدة و. والسيد ج. وزوجه والشاب مخائيل والآنسة دعد، واعتنيت كثيراً في انتقاء هؤلاء الأشخاص من مجتمعنا حتى ظهروا بصفات طبيعية لا تكلف ولا خيال فيها، أما الحديث الموسيقي الذي أثبته في صدر القصة فهو درس خاص قصدت أن أشرح فيه خلاصة النظرية العصرية الراقية في الموسيقى وأغراضها، وعسى أن أكون توفقت في ذلك، وأعتقد أن نفسية سليم ودعد تمثل ظاهرة نفسية جديدة في حياتنا الاجتماعية مختلفة كل الاختلاف عن النفسية البادية في جميع الأشخاص المحيطين بهما.

وقصدي الأول من هذه القصة أن أوضح الحالة المادية المسيطرة على عقولنا ونفوسنا حتى أننا نجبن عن مواجهة الحياة الفنية ونفضل الخمول على المجازفة ببعض راحتنا، ونخاف كثيراً من الوقوع في صعوبات الحياة ومجابهتها، ولا نشرع أن للإنسان قيمة غير قيمته المادية، بل أننا دائماً مستعدون لقتل العواطف الحية من أجل تأمين راحة الجسد، ورأيت أن أبين فيها أغراق مجموعنا في إهمال فضائل كثيرة ضرورية لارتقاء نفسيتنا وعقليتنا ولو أدى إهمالها إلى القضاء على كل أمل لنا بحياة حرة راقية وكل مطلب أعلى تتجه نحوه بصائرنا ولا أكتم القارئ خشيتي من أن ينحي بعض الكتاب الانتقاديين باللائمة علي لجعلي القصة فاجعة انتصرت فيها الحيوانية على الإنسانية والرذيلة على الفضيلة فعاكست بذلك المبدأ الذي اتبعه شكسبير في قصته الشعرية التي صدرت فاجعة حب ببيت منها وهو المبدأ القائل بضرورة تأييد الفضيلة وجعلها دائماً وأبداً منتصرة، والحقيقة إني أنا نفسي ترددت كثيراًُ في بادئ الأمر حتى انتصار الفضيلة الدائم في الأدب قد يقلل من أهمية الدعوة إلى نصرتها في الحياة، ولما أمعنت النظر في ظروف القصة وجدت الأسباب الروائية الخاصة بها والأمانة للواقع توجب جعل الختام على الوجه الذي وضعته، خصوصاً بعد أن درست حالة البطل سليم ووجدت أنه سابق زمانه بعقد أو عقدين من السنين على الأقل، فضلاً عن أن ظروف المحيط والبيئة يجعلان النتيجة التي اخترتها أكثر انطباقاً على الواقع.

أرجو أن أكون قد أحسنت انتقاء الغاية وأصبت اختيار السبيل إليها. ([1])



--------------------------------------------------------------------------------
[1] طبعت هاتان القصتان للمرة الأولى في بيروت عام1931



عيد سيدة صيدنايا



Meine Laura. Nenne mir den wirbel

Der an koerper koerper naechting reiss

Nenne, neine Laura, nir den zauber

Der zum Geist gewaltig zwingt den Geist

SCHILLLER



صيدنايا بلدة صغيرة بالقرب من دمشق، كل منازلها تقريباً أكواخ بالمعنى الصحيح، وليس فيها بناء كبير يستحق الذكر سوى ديرها المشهور، وهو بناء على شيء من الفخامة، مبني على ذروة تل تشرف على جميع الجهات ا لتي حول البلدة القائمة في السفح، وليس في كل تلك الجهات موقع أجمل من موقعه (أن احتلال الأديرة أجمل مواقع البلاد لأمر بديهي عندنا، فالأديرة في بلادنا تقوم مقام قصور الأمراء والإشراف في البلدان الغربية)، ويتألف دير صيدنايا من بناء صغير قديم جداً أضيفت أبنية جديدة إليه تدريجياً، والمعروف أن جزءاً هاماً منه أقامه بناؤون شويريون كانوا مشهورين بالهندسة والبناء.

ليست أكواخ صيدنايا على شيء من الرواء والرونق، فلا شجر ولا نبات يكتنفها، ولكن في السهل المنبسط عند أسفل التل بستان كبير فيه أغراس زيتون عديدة وأشجار جوز باسقة الأغصان، وأرفة الظلال يرويه ماء نبع غزير وتقوم فوق هضبة لا تبعد عن التل القائم عليه الدير، في أعلاها وسفحها، كروم عنب وتين قليلة، وفي سفح هذه الهضبة مغارة تسمى مغارة (أم بزاز) (ذات الأثداء) ويعتقد أهل تلك النواحي أنها مقدسة ويعدون الحج إليها من جملة الفرائض.

أما (أم بزاز) التي أطلق اسمها على هذه المغارة فهي قديسة قديمة هكذا يقولون- أو هي سيدة صيدنايا والقرويون يتناقلون عنها حكايات غريبة تدل على قوتها العجائبية ويوقدون لها الشموع ويوفون نذورهم لها على مذبح محفور في جانب المغارة إلى يمين المدخل، ولا يزال هؤلاء القرويون البسطاء يستدلون على صحة حكايات القديسة وعجائبها بوجود مكان معين في قبة المغارة يرشح منه ماء قطرة كل ثلاث دقائق تقريباً، يجدون في انتظام رشح الماء على الوصف المتقدم رمزاً لقوة أم بزاز السحرية، ومع أن تعليل رشح الماء سهل جداً لوجود الماء على الهضبة فإن القرويين يرون رشحه من مكان معين سراً مختصاً بالسيدة أم بزاز، وهم يتبركون بقطرات الماء حتى أنهم وضعوا تحت المكان الذي ترشح منه حجراً يقعد عليه من أراد التبرك ويتقبل قطرة الماء على جبينه.

يؤم صيدنايا في عيد السيدة خلق كثير من أنحاء كثيرة من القطر السوري من دمشق العاصمة، أقدم مدينة موجودة في العالم، ومن حلب وأنطاكية مدينة الإله أدونيس، ومن بيروت عروس المتوسط مدينة عشتروت القديمة والاسكندرية وحمص الغنيات بآثارها التاريخية ومن جبيل أو بيبلوس القديمة، ومنارة العلم في الشرق الأدنى قديماً وحديثاً، ومن صيدا وصور المدينتين الخالدتي الأثر في تاريخ المدنية والعمران، ومن حيفا ويافا والقدس منائر الجنوب، ومن قرى لبنان الجبل الجميل الفخم وبقية البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، فيجتمع في العيد المذكور خلق كثير لا من المسيحيين فقط بل من المحمديين أيضاً لأن عيد صيدنايا يتخذ صفة عيد شعبي لسكان تلك المنطقة، فيبتهج فيه الشعب على اختلاف نحله، الأمر الذي ينبهنا إلى الفائدة الاجتماعية الجليلة التي يجنيها الشعب السوري كله من جعل الأعياد الدينية المحمدية والمسيحية الكبرى أعياداً شعبية يوجد فيها السرور والابتهاج عواطف جميع السوريين ويجعلهم يشعرون بوحدتهم القومية والاجتماعية.

يبتدئ القوم يتقاطرون إلى صيدنايا قبل العيد بأيام ثم تفد جموعهم في اليوم السابق للعيد ويوم العيد الأول (مدة عيد صيدنايا ثلاثة أيام) وهم يستخدمون وسائل النقل العصرية كالسيارات والدراجات النارية بدلاً من العربات والخيل والحمير وغيرها التي كانت تستعمل قبلاً حتى عهد قريب، وطريق صيدنايا سهلة غير أنه لا يزال قسم منها غير معبد فكلما مرت سيارة أثارت غباراً، وليكن القادمين قلما يبالون بالغبار فلا ينتصف نهار العيد الأول إلا وغرف الدير وكنيسته وساحاته الداخلية وسطوحه قد غصت بالجموع ولم يعد فيها متسع للجموع الأخرى التي لا تنقطع وفودها كل ذلك النهار، فيحدث هرج ومرج عظيمان تضطرب لهما البلدة الصغيرة وبينما الجماهير في غدو ورواح إذ بالشبان يؤلفون فرق (العراضات) التي تتجول في كل مكان ويملأ هتافها كل تلك الناحية، أما أهل البلدة فبعضهم ينصرفون إلى إعداد بيوتهم لنزول القادمين الذين يضيق بهم الدير على رحبه، والبعض الآخرون يعدون المآكل من لحم مشوق وبيض مسلوق وخبز وجبن وزيتون، أو يجيئون بالعنب والتين وأنواع البزور إلى الدير ليبيعوها للزائرين، ويدور في الدير رقص (الدبكة) فيؤلف الرجال حلقاتهم وتؤلف النساء حلقاتهن، ولا يخلو الأمر من جاهل أو أحمق لا يعرف آداب السلوك والمعاشرة أو هو يعرفها ولا يعرف أن يحافظ عليها فيكون سبباً في تشويه العيد على القوم وعلى نفسه.

وأهم ما يسترعي انتباه الزائر القادم إلى العيد لأول مرة من شؤون الخلق المزدحمين هناك ملابس القرويات وحللهن الخاصة بالأعياد، فللقرويات السوريات حلل زاهية الألوان، بديعة المنظر حتى أنه يحق لهن أن يباهين بها قرويات العالم في سلامة الذوق وجمال المظهر، وملابس قروياتنا إجمالاً جميلة ولها رونق الزي القومي بيد أن قرويات معلولا يمتزن بزي خاص هو من أجمل أزيائنا القروية القومية وبقية زي القرويات السوريات، القديم الأصلي.

قلت أنه لا يخلو الأمر في الحوادث الشعبية، مثل عيد سيدة صيدنايا، والحمقى لا يتركون فرصة تمر دون أن يغتنموها لإظهار جهلهم وحماقتهم، فاجتمع منهم في عيد سيدة صيدنايا سنة 1930 عدد غير يسير، إلا أن واحداً منهم امتاز عنهم بجرأته وإقدامه وجعل للحادث التالي أهمية روائية ما كان ليكتسبها لولا الأعمال المرشحية والأدوار التمثيلية التي أتاها.

كان بين القادمين إلى دير صيدنايا في عيد السنة المذكورة شاب من لبنان ربعة إلى الطول، مرير القوى، مسمور الجسم، في قامته استقامة الرمح، ذو صدر يشبه بارتفاعه برجاً حصيناً، وهو مستوي الوقفة، معتدل الخطوة ولعينيه بريق تظهر فيه قوة روحه، وهيأته إجمالاً تدل على أنه غير ميال كثيراً إلى الهزل، بيد أنه كان يحب مشاهدة الألعاب ويسر بها سرور الطفل، والناظر إليه يدرك لأول وهلة أنه ليس من الذين ذهبت أخلاقهم وفسدت طباعهم من شبان هذا العصر الذين لم يحصلوا حين نشأتهم على تربية عائلية اجتماعية صحيحة، ولا من الذين أنشبت مخالبهم بها المشارب القديمة الفاسدة التي لا تجر على من يتمسك بها في القرن الحاضر إلا الوبال، كانت نفسه بسيطة وكان في مقتبل العمر، واسمه إبراهيم -لا أريد أن أدعوه باسمه الحقيقي ولا أن أذكر اسم البلدة التي جاء منها لكيلا تتحول إلى أمر شخصي وتفقد صفة الواقعية الروائية المقصودة ومن المؤكد أن إبراهيم لم يأت إلى صيدنايا لفروض كنسية لأنه كان يحب الله والطبيعة حباً خالياً من الرهبة التي تدعو إلى السجود وتقديم القرابين، ويهرب من الطقوس، ورغبته الوحيدة كانت أن يشترك في العيد ويرى مظاهر جديدة من مظاهر قومه الشعبية، لذلك كان إعجابه بالمشاهد الكثيرة التي وقعت عليها عيناه المتقدتان شديداً،بل كان ابتهاج الطفل يبدو على وجهه كلما رأى حلل القرويات الزاهية.

لإبراهيم في بلدته سيرة بطولة مشهورة يعرفها كل الذين يهتمون بتناقل الأبطال وكان الشبان الذين يعرفونه ينظرون إليه نظرهم إلى مثال فخم لقوة الجسد والروح، حتى إنه إذا وجد بينهم وخطر لهم أن يدخلوا على الأسود في عرائنا، أو أن يتصدوا لمحاربة جيش مسلح ولا سلاح لهم إلا العصى، أقدموا موقنين بالفوز، وفيما سوى ذلك كان هذا الشاب مشهوراً بغرابة الأطوار، من ذلك أنه كان يكره الظهور ويأنف من عرض قوته البدنية العظيمة على الناس فخالف بذلك عادة الفتيان الذين لا يكادون يطمئنون إلى شيء من القوة في عضلاتهم حتى يعمدوا إلى إظهاره والمفاخرة به، وكان يبتعد عن مخالطة الناس خصوصاً الجنس اللطيف، فكان يفارق كل مجلس يضم سيدات أو آنسات، ويعرض على الحسان اللواتي كن يخفين في صدورهن شوقاً لاعجاً للاجتماع به، مثيراً كوامن غيظهن بعدم مبالاته وعبثه حتى أخن يتناقلن عنه حكايات مختلفة، القصد منها الحط من شأنه، وشاركهن في غيظهن كل الشبان الذين كانوا يحسدونه لعلوه عن مستواهم في القوة البدنية وقوة الإرادة فجعلوا يذيعون عنه حكايات قصدوا منها أن يطعنوه في رجولته، أما هو فكان يترفع عنهم ويمر بأقاصيصهم مرور الكرام، ومع ذلك لم ير بد من تأديب واحد ِأو اثنين بلغت بهما الوقاحة حداً حملهم على الاقتناع بما كانوا يختلقونه عنه.

مما يجب ألا يغفل ذكره هنا أمر له علاقة كبيرة بنهاية هذه القصة، وهو أن إبراهيم سئل مرة كيف يجب أن تكون امرأته فيما لو أراد أن يتزوج، وكان السائل صديقاً حميماً لإبراهيم فأجابه أنه يرى انتخاب امرأة صحيحة الجسم، قوية البنية، مليئة، مكتنزة، موردة الخدين، وافرة العقل، حسنة المدارك، تعرف كيف تدير شؤون بيتها ويكون من صحتها صحة لأولادها.

دخل إبراهيم الدير وأخذ يتجول في باحاته وأروقته ويتنقل على سطوحه ثم أنه أشرف على أحد السطوح ليراقب ما يجري في الباحة الكبيرة التي أمامه، فوقعت عينه على حلقة (دبكة) في وسطها، مؤلفة من فتيات قرويات والجمع يحدث بها من جميع النواحي حتى صارت حلقة ضمن حلقات، وبينما هو يتمتع بمرأى حلقة الرقص إذ بإحداى الراقصات تنفرد عن رفيقاتها وتدخل وسط الحلقة وتأخذ في رقص فردي مبتكر بينما رفيقاتها يتابعن الدبكة حولها، وكانت الفتاة معتدلة القد هيفاء القوام، تلعاء الجيد، أسيلة الخد، ذلفاء الأنف، حوراء العينين، وطفاء الأهداب، وكانت لابسة حلة أرجوانية، شادة وسطها بنطاق مذهب، معلقة في أذنيها الصغيرتين قرطين كبيرين تتدلى منهما قطع نقود ذهبية صغيرة، لافَّة شعرها بمنديل تتعلق به قطع نقود فضة ومن فوقه وشاح أبيض مسدل على ظهرها، لم يكن إبراهيم قد رأى من قبل راقصة مثل هذه ولا فتاة شبيهة بها، فأعجب بمرآها أيما إعجاب وأخذ يتأمل قدها الجميل وهيأتها اللطيفة ويراقبها.

في خطوها وتنقلها وسرعة دورانها ورشاقتها في انحنائها وتمايلها، صفات تتجلى فيها قوة عاطفتها وشدة إحساسها، وكانت بين حين وآخر ترفع رأسها بشمم واعتزاز وتلقي على ما حولها نظرات فيها كل معاني عدم المبالاة.

وقف صاحبنا ينظر إلى هذه الراقصة برغبة عظيمة وارتياح تام، ولأول مرة في حياته شعر بخفقان في قلبه وأحس حرارة شديدة تغشي سطح بدنه دون أن ينتبه إلى هذه الحالة الجديدة التي صار إليها، ولو رآه على هذه الحالة من يعرفه جيداً لعجب كثيراً من استئناسه بمرأى الفتيات وإعجابه بمظهر الراقصة الحسناء وهو الذي كان يهرب من النساء ومن كل مجتمع نسائي هربا، ولا يرغب في أن يرى منهم إلا من كانت ممتلئة البدن.

لاشك في أنه لو انتبه ابراهيم إلى نفسه في هذه الآونة ورأى الحالة التي هو عليها لكان أخلى مكانه بغاية السرعة وهرب جرياً على عادته وهزأ من نفسه كيف أطاق أن يطيل النظر إلى حلقة من النساء ويبتهج بمرأى فتاة غريبة جداً عن نوع الجماع الذي كان يملأ تصوراته، ولكنهن لم ينتبه قط لأن الراقصة كانت آية في الذوق والإبداع ولها مدلولات نفسية تثير كوامن الشعور، لم يكن هو الوحيد الذي ترك كل شيء آخر وأقبل لمشاهدة الراقصة الأنيقة، بل أن الباحة التي كانت ترقص فيها كانت كلها أعناقاً متطاولة نحوها.

أخيراً أتمت الراقصة رقصها الفردي فأقلت رفيقاتها يهنئنها وسط عاصفة من التصفيق توردت لها وجنتاها، أما إبراهيم فبقي في مكانه لا يصفق ولا يهتف ولكن عينيه كانتا يراقبان ما يجري في الأسفل باضطراب وقلق، فإن فريقاً من الجمهور المزدحم في الباحة مؤلفاً من أولئك البلهاء الذين يظنون الفطنة كل الفطنة في انتهاز مثل هذه الفرصة للتلذذ بأتفه الملذات وأحقرها كملامسة أجساد الفتيات والنظر إلى وجوههن عن كثب بوقاحة وصلابة جبين تظهر فيهما الغريزة الحيوانية بوضوح تام، أطبق على الراقصات وضرب حولهن نطاقاً ضيقاً أصبح اختراقه من الصعب عليهن، إذا لم يكن من المستحيل، فتضايقن جداً وعبثا نظرن إلى من حولهن نظرات ملؤها التضرع، وكان بين الجميع شاب يشق طريقه نحو الفتيات وعليه دلائل الجذل الممزوج بالخبث، فاغتاظ إبراهيم جداً من هذه الحال خصوصاً من الشاب الذي كان يتقدم نحو الفتيات وليس في هيئته ما يدل على أنه يقصد الإفراج عنهن ولم يتمالك أن انحدر إلى الساحة وطلب من جمهور الرجال الواقفين هناك أن يفسحوا له مجالاً للتقدم ولما رأى أنهم قابلوا طلبه بعدم الاكتراث ابتدأ يجذب بعضهم ويدفع آخرين بقوته الملكارتية حتى شق لنفسه بين الجمع طريقاً عريضة كافية لمرور شخص واحد دون انزعاج، فلما بلغ المكان الذي انحصرت فيه الفتيات كان الشاب الذي انسل بين الجمع قدامه وقد سبقه وجعل يحادث الراقصة الحسناء بتودد، أما هي فامتعضت من وجوده وازدادت اضطراباً لما رأت مضايقة القوم لها ولرفيقاتها، فلما رأت إبراهيم مقلاً والرجال تتطاير من يديه ذات اليمين وذات اليسار، دهشت دهشاً عظيماً ثم أنها لم تلبث أن أدركت أنه آت للإفراج عنها وعن رفيقاتها فأكبرت نخوته وشجاعته.

فتقدم إبراهيم إلى هذه الفتاة ووقف لحظة يبادلها النظر وهو لا يدري ماذا يفعل، وكأن الفتاة أيضاً لم تكن تدري ماذا تفعل، ثم خاطبها قائلاً: (أيتها الآنسة، إن الطريق مفتوحة لك ولرفيقاتك)، فأجابته بصوت خريد، وقد تضرج خداها: (إني أشكرك من كل قلبي فإنك قد أنقذتنا وحدك)، وعلى أثر غضت نظرها وأنطلقت في الممر الذي افتتحه إبراهيم وسارت رفيقاتها في أثرها.

أما إبراهيم فإنه بقي في مكانه مبهوتاً حائراً وكان قد همّ أولاً بالإجابة على شكر الفتاة ولكن عواطفه كانت أقوى من آداب المجاملات فلم يسعده النطق ولم يعد يعرف كيف يتصرف لأن هذا اللقاء ربك رأيه تربيكاً.

بيد أن حيرة إبراهيم لم تستمر طويلاً، لأن الشاب الآخر الذي ظل لحظة واقفاً يحرق الأرم على إبراهيم لقطعه عليه ما كان آخذاً فيه، تحرك بغتة من موقفه وهمّ باللحاق بالفتاة التي لم تكن قد توارت عن النظر، فنبه تحركه إبراهيم فمدّ إليه يده القوية بسرعة البرق وجذبه إلى الوراء وصاح به بغضب: (إذا كنت لا تترك مطاردة الفتيات فقد تقع في ورطة يعسر عليك الخروج منها).

وكانت صيحته قوية إلى حد أن الفتاة سمعتها فالتفتت إلى ورائها ورأته قابضاً على عضد الشاب فكرَّت عائدة ملهوفة وخاطبته بتضرع قائلة: (سامح هذا الشاب وأخل سبيله لأنه لا يدري ما يفعل) فتركه إبراهيم وقد دهش لتصرف الفتاة التي لم تكد ترى يده رجعت حتى أخذت بساعد الشاب وحاولت أن تجره وهي تقول (تعال، عجل) ولكن هذا بدلاً من أن يبتعها نظر إلى إبراهم شزرا وقال له: (سنلتقي مرة أخرى في هذا المساء وحينئذ أريك كيف تكون نتيجة تعرضك لما لا يعنيك) وأفلت على الأثر من الفتاة وسار منفرداً، وكان كلما بعد عن المكان ازداد التهاباً وقلبه حقداً.

حينئذ نكست الفتاة رأسها ورجعت مسرعة من حيث أتت كمن يريد الهرب من شيء يخشاه، وبقي إبراهيم في مكانه وهو ما كاد يستفيق من ذهول حتى عاجله ذهول أشد منه، ولكن لغط الناس حوله نبه فرفع رأسه ونظر إلى الجمع بعينين ضاقت الدنيا بهما ثم سدد خطاه نحو الممر المؤدي إلى الخارج وسار والناس تتراجع من طريقه كما من أمام جبار أو أمير.

لم يكن قد بقي لغيوب الشمس سوى ساعة أو أكثر قليلاً، ولم يكن إبراهيم يدري لم أراد الخروج من الدير ولا إلى أين يتوجه ولكنه لما صار في الخارج استرسل إلى إحساسه وهام على وجهه بين الهضاب التي بجانب الدبر ورأسه مثقل بالألغاز والأحاجي وكل ما مر به كان يبدو له معميات: من تكون تلك القروية الحسناء؟ ومن يكون ذلك الشاب وما شأنه معها؟ ولكن لماذا يقلقني ذلك وما يعنين أنا من أمر الاثنين ولماذا يجب أن أفكر دائماً بتلك الفتاة؟ وكان كلما حاول أن يضعف من شأن هذه المسائل ازداد قلقه لها وشعر أنها مسيطرة على شعوره حتى أيقن أنه لا يمكنه أن ينساها مهما بدت له عادية أو تافهة، فحاول أن يسري همه بالانتباه إلى طبيعة الأرض التي يمر بها، وإذا به يرى نفسه تجاه كهف محفور في منحدر الهضبة، وشاهد ناساً واقفين عند مدخله وآخرين داخله. فاقترب من صبي كان آتيا من جهة الكهف وسأله عن شأن الناس المجتمعين هناك فأجابه الصبي: هذه مغارة القديسة أم بزاز، والناس يأتون لزيارتها".

ولم يكد إبراهيم يسمع ذلك حتى شعر برغبة شديدة في دخول الكهف والوقوف على ما فيه. ولم يتردد لحظة واحدة في تحقيق هذه الرغبة فلما صار في داخله لم يجد فيه شيئاً غير عادي عن الكهوف التي تكثر في مناطق البلاد الجبلية سوى المذبح الصغير في جانبه الأيمن . وكان في الكهف بعض النساء ينتظرن فتاة قعدت تحت مرشح الماء تتوقع حلول بركة القديسة عليها، وشاهد إبراهيم قطرة الماء تسقط على جبينها وكيف أن النساء ابتهجن لذلك فاكتفى بما شاهد وأقتلع من سقف الكهف حجرين صغيرين للذكرى وتحول إلى المخرج ولكن امرأة كانت واقفة هناك استوقفته قائلة تبرك أولا ثم أخرج لأنه لا يحسن أن يزور إنسان هذا المكان ويعود بدون بركة القديسة ولكن إبراهيم انحاز عنها وقفز إلى الخارج وعاد في طريق الدير.

وفيما هو في الطريق عاد يفكر: أن ذلك الشاب قال لي أننا سنلتقي في هذا المساء فكيف يعلم أننا سنلتقي قد يخطر لي أن أغادر صيدنايا الآن ومن ثم لا نعود نلتقي. ولكن لم أبرح هذه البلدة أيوجد ما يضطرني إلى ذلك ثم ماذا سيحدث في هذه العشية أهو شيء جديد غريب يعرض لي لأول مرة ـ أف لهذه الوساوس. وهل يمكن أن أكون قد أمسيت عرضة لها

لما بلغ إبراهيم الدير كانت الشمس قد توارت منذ بضع دقائق وأخذ الليل يرخي سدوله فأنه كان ليلا داجيا.

http://m3rouf.mountada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى