m3rouf alkhoder
أهلاً بكم في المنتدى الخاص بمعروف الخضر يمكنكم تصفح الموقع ولوضع المشاركات يرجى التسجيل

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

m3rouf alkhoder
أهلاً بكم في المنتدى الخاص بمعروف الخضر يمكنكم تصفح الموقع ولوضع المشاركات يرجى التسجيل
m3rouf alkhoder
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
m3rouf alkhoder

منتدى شعري ثقافي

designer : yaser marouf email:y.a.s.e.r.94@hotmail.com

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

الجزء الأخير من قصة " عيد سيدة صيدنايا " بقلم الزعيم 1931

اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

Admin


Admin

وكانت ساحات الدير الداخلية قد أنيرت بقناديل البترول والجموع لا تزال على حالها من الازدحام والهرج والمرج، ألا القروية الحسناء فأنها لم تعد تظهر لهم. فسار إبراهيم في ذلك المحيط الخضم على غير هدى ودخل أحد الأروقة وكانت قاعة الطعام في آخرة فرأته إحدى الراهبات ودعته إلى العشاء ولكنه لم يكن يشعر بميل للأكل فشكر وأعتذر وتحول إلى ممر قريب قامت في وسطه غرفة صغيرة كان بابها مفتوحا قليلا، وفيما هو يجتاز هذا الباب سمع من داخل الغرفة صوتا رخيما أدرك حالا أنه صوت الراقصة القروية فتوقف عن غير عمد وطرقت مسامعه الكلمات الآتية لا تكن عنيدا يا جرجس، فيكفيني أن أكون تدخلت من أجلك أصيل هذا النهار. ولا تنسى أن أمك مريضة وأنه يجب عليك أن لا تجعلني سببا للشر. وأنت قد توعدت شابا كريم الأخلاق دافع عنا وأخرجنا من المأزق الحرج الذي كنا فيه، وهو شاب قوي يخشى منه ولا يخشى عليه فلا تتعرض له.

فأجابها المخاطب: إذا كان الشاب قويا فأن ضربة سيفي لا ترد.وسترين صدق قولي.

فأسرع إبراهيم بالابتعاد، موبخا نفسه على وقوفه عند الباب كمن يتعمد استراق السمع وصعد إلى أحد السطوح وقد خطر له أن يغادر صيدنايا في الحال، ولكنه عاد ففكر: (لماذا يجب أن أغادر صيدنايا، وهل من عادتي أن أهرب؟) ولكن ما هذا القلق المستولي علي ولم أعهد في نفسي شيئا من ذلك من قبل؟ وبعد أن هدأ روعه قال في سره (من تكون هذه الفتاة؟ إنها تقول أني أخشى ولا أخشى عليّ)، عند هذا الخاطر ابتسم ولم يشأ أن يطيل التفكير فأخذ يجول وينتقل من سطح إلى ساحة ومن ساحة إلى سطح لعله يزيل ما به من حيرة.

وبينما هو في جولاته إذا بفتى لا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، جميل الطلعة، حسن الهندام، معتدل القامة، شديد الأسر قبض على ساعده في إحدى الساحات وصاح به: ما الذي جاء بك إلى هنا يا إبراهيم؟ إنها والله لصدقة تستحق التسجيل، فالتفت إبراهيم ليرى من ذا الذي أمسكه ومرت عليه بضع ثوان قبل أن يتمكن من استرداد أفكاره الشاردة، ثم ظهرت عليه علائم البشر وقال: (آه، هذا أنت، يا رشيد، مرحباً، مرحباً، لقد جئت أنا لحضور العيد وأنت ما الذي جاء بك)؟

•- (وأنا أيضاً جئت لحضور العيد ولكني جئت على ميعاد وأرجو أن يكون مواعدي قد حضر، وإني أشكر التقادير التي جمعني بك الآن لتكون شاهداً على ما سيجري).

•- (ماذا سيجري؟) وتسارعت الخواطر في دماغ إبراهيم.

•- (سيجري ضراب بالسيف، مبارزة حكيمة أنا أحد المتنازلين فيها، ويسرني كثيراً وجودك هنا، فقد لا يكون هنا أحد غيرك صديقاً وخبيراً بهذه اللعبة الخطرة).

•- (من خصمك)؟

•- (أرجو أن ألتقي به قريباً فهل لك أن تصحبني)؟

•- (بطيبة خاطر، ولكن ما هذا الميعاد الغريب للمبارزة)؟

•- ( إن لذلك حكاية لا مجال لقصها عليك الآن، وقد تأتي فرصة أخرى لذلك، هلم نصعد إلى السطح).

فصعد الاثنان إلى أحد السطوح وجعلا يتسامران وكان رشيد لا يغفل من مراقبة الساحة التي تحت، وبغتة توقف وأمسك رفيقه وهزه قائلاً: (أنظر إلى ذلك الشاب الذي يخوض عباب الجمع هناك، هذا هو خصمي، إنه ولاشك يبحث عني فهلم بنا نلاقيه).

فنظر إبراهيم ورأى شاباً ما عتم أن عرف أنه نفس الشاب الذي توعده في النهار، فبهت لهذه الصدقة المفاجئة وتبع رفيقه وهو يتمتم لنفسه: (إنه من لاعبي الحكم ([1]) ويبارز في الليل على ميعاد، وأمه مريضة ولكنه لا يعبأ بها، ويوجد فتاة تتدخل من أجله وتنصحه من أجل أمه ومع ذلك يظل على عناده).

عندما لاقى رشيد خصمه ابتدره قائلاً: (لقد كدت أتأخر عن المجيء لأسباب، وأرجو أن لا يكون الميعاد قد فات)؟

فأجابه وهو ينظر إلى إبراهيم متعجباً من وجوده: (لما يفت الوقت، بل لا يزال أمامنا نحو نصف ساعة يمكننا أثناءها أن ندرس المكان ونعين الحكم).

فقال رشيد: (اسمح لي أن أقدم صديقي إبراهيم إليك فهو غير مشهور في عالم الحكم ولكنه أبرع من انتضى سيفاً) والتفت إلى إبراهيم وقال له: (أقدم إليك السيد جرجس أحد البارعين بضرب السيف).

فانحنى إبراهيم وانحنى الشاب ولكنهما لم يتصافحا، وسار الثلاثة يبحثون عن مكان موافق للمبارزة إلى أن اهتدوا إلى باحة صغيرة منعزلة واقعة في القسم الخلفي من الدير، معلق في وسطها قنديل غازي نوره كاف لإنارة المكان ثم أن جرجس قدم رجلاً عارفاً بأبواب الحكم ورشحه للقضاء بينه وبين خصمه فقبله رشيد وزاد جرجس أن يكون لإبراهيم الحق في مراقبة المبارزة بما أنه ممن يحسنون الحكم، بعد ذلك أفترق الخصمان فذهب جرجس مع الرجل الذي رشحه هو ليكون حكماً وانصرف رشيد برفقة إبراهيم، فقال إبراهيم: (إنها المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها مثل هذه الألغاز).

فأجابه رشيد: (سترى إن للألغاز لذتها، بل أنت تعلم ذلك لأن حياتك كله ألغاز بألغاز، ألم تقم مرات كثيرة بأعمال غريبة كمان يعدها الناس ألغازاً ولكنك أنت كنت تعدها شيئاً طبيعياً، بديهياً؟ك إني أقتبس من نورك واقتفي خطاك وأعلم أن الغازي ليست شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى ألغازك وأرى أن ألغاز حياتك المقبلة ستكون أعظم من ألغاز حياتك الماضية).

لم يجب إبراهيم على كلام صديقه، أما لأنه وجده مصيباً أو لسبب آخر لم يرد إظهاره، وصمت رشيد أيضاً لأنه كان عليه أن يستعد للمبارزة، ودخل الاثنان إحدى الغرف حيث نزع رشيد ثيابه المدنية ولبس منها ثوباً بسيطاً تسهل معه حركة جسمه واحتذى نعلاً خفيفة، ثم أخرج من حقيبة مستطيلة كان يحملها معه سيفاً وترساً، يبدو حالاً من مظهرهما أنهما خصوصيان فجرد السيف وجعل يمتحن حده وأداره في الهواء عدة مرات لتمرين ذراعه وأعاده على الإثر إلى غمده وتأبطه وحمل الترس والتفت إلى صديقه وقال:

(ها أنا حاضر للقتال فكيف تراني)؟

•- (أراك نشيطاً وفي حالة حسنة، ولكنك لم تقل لي إلى أي حد من الخطر ستبلغ المبارزة)؟

•- إلى الحد الأخير.

•- (وهل هذا التصميم نهائي لا رجوع عنه)؟

•- إنه نهائي إلى النهاية، ونظر إلى ساعته وقال: (هيا بنا فقد حان الميعاد) وخرج من الغرفة وتبعه إبراهيم صامتاً.



ولما بلغا الساحة المعينة وجدا أنهما الأولان للقدوم ولم يكن هنالك جمع غفير، فجعلا يتمشيان ذهاباً وإياباً ويتكلما عن أشياء تافهة وأمور لا محل لها، قتلاً للوقت، إلى أن قدم الاثنان الآخران فاستقبلاهما وتفاهموا على بعض النقط المتعلقة بالأصول المتبعة في الجلاد بالسيف، ثم اتخذ كل من الخصمين مركزه مقابل الآخر واتخذ الحكم موقفه ووقف إبراهيم في طرف الساحة عند متوسطها وأعطى الحكم الإشارة فتناول المتنازلان سيفهما وترسيهما وشرعا يتجاولان من بعيد تمهيداً للالتحام.

ما كاد سيفا المتبارزين يلمعان على ضوء القنديل ويقبقبان على الترسين حتى أقبل الجمع وضربوا نطاقاً عند مدار الساحة وشعر القوم على السطوح بما يجري فأشرفوا من كل مكان مناسب، وأشرأبت الأعناق وأمسى المتضاربان قبلة الأنظار وكان الناس يظنون أنهما يلعبان السيف من قبيل اللهو.

تجول الخصمان حتى سبر كل منهما غور الآخر ثم تقاربا والتحما وسمع لسيفيهما طرق متكرر على الترسين ولكن لم ينل أحدهما من الآخر منالا فأشار الحكم بالتراجع فتراجعا، ثم عادا إلى التجالد بين كر وفر، وفي هذه الأثناء أصاب سيف جرجس صدر رشيد فجرحه، ولاحظ إبراهيم أن جرجس يستعمل في التسايف ضروباً لا يستعملها من عنده شيء من كرامة وآداب السيف، بعكس رشيد الذي كان نزيهاً في كل أبوابه، يجيب على ضربات الغش المسددة نحوه بضربات صريحة، فصبر على هذه الضربة الأولى، ولكن لم يطل الوقت حتى عاد جرجس فجرح رشيداً في كتفه جرحاً بالغاً مستعملاً نفس الضروب المعيبة لرجال السيف، فلم يطق إبراهيم صبراً على ذلك، خصوصاً بعد أن رأى الحكم لا يتدخل وصديقه أشرف على حالة حرجة فقفز إلى وسط الساحة وحال بين الخصمين في الوقت المناسب لمنع ضربة أخرى قوية كان جرجس يهيئها وصاح بهذا، : (ليس هكذا يستعمل أهل السيف سيوفهم).

فاستاء جرجس جداً من حؤول إبراهيم بينه وبين خصمه وأجابه: (إذا كنت تدعي معرفة استعمال السيف أحسن مني فجرب نفسك)!

فأجابه إبراهيم وقد نسي أفكاره السابقة: (حذار يا هذا فإنك تعرض نفسك للإهانة).

•- (إن من يعرض نفسه للإهانة هو أنت فكن على حذر)، قال جرجس هذا وهز حسامه وتراجع بضع خطوات إلى الوراء داعياً مخاطبه إلى المبارزة. فثار ثائر إبراهيم الذي لم يتفق له فيما مضى أن يصبر على وقاحة وقح إلى هذا الحد، فأخذ رشيداً إلى جانب وهو في حالة خطر شديد وأخذ حسامه منه وأقل على جرجس بغير ترس وعيناه تقدحان شرراً من شدة الغضب، ثم أنه لاعب سيفه مرسلاً منه بريقاً كوميض البرق وحمل على خصمه والتحم معه تواً فدافع هذا عن نفسه بالترس وحاول أن يرد الضربة ضربة ولكن سرعة دوران سيف إبراهيم عرقلت سيفه وأبطلت أبواب خداعه، وافترق الخصمان وقد أصيب جرجس في كتفه الأيسر وجرح جرحاً غير بالغ، وفيما إبراهيم يجول ليعيد الكرة على منازله إذ حانت منه التفاتة على جانب ووقع نظره على الراقصة التي شغلت قلبه وسلبت لبه وكانت تراقب ما يجري بوجه يدل على مبلغ جزعها، والتحم المتضاربان مرة أخرى وسمع لسيفيهما صليل وقبقبة وحانت لإبراهيم فرصة يدرك كل من يعرفه إنها قاضية له، ولكنه بدلاً من أن يهوي بسيفه على منكشف منازله تباطأ كمن يشعر بارتخاء ساعده وكان جرجس قد سدد ضربة شديدة إلى عنقه فمال عنها واعترضها بكتفه فجرحته جرحاً بليغاً وقبل أن يتمكن الاثنان من العودة إلى الالتحام ركضت الراقصة ووقفت بينهما وأسرع الناس وكفوهما عن القتال، وأقلت إحدى راهبات الدير لترى ما الخبر فلما رأت إبراهيم ورشيداً والدم يسيل منهما قادتهما إلى غرفة وأحضرت راهبتين أخريين ساعدتاها على ضمد جراحهما، ورأت ما حل بإبراهيم بعض النساء اللواتي التقين به في مغارة (أم بزاز) وحالا سرى بين القوم الاعتقاد بأن القديسة أم بزاز قد اقتصت لنفسها من هذا المتكبر الذي لم يشأن أن يطلب بتركها.

واتصل الخبر حالاً برجال الدرك المرسلين خصيصاً لحفظ الأمن أثناء العيد فأسرع اثنان منهم للوقوف على جلية الأمر، وكانا أرمنيين لا يحسنان التكلم بالعربية، فأقبلا على الجريحين المضطجعين في سريرين قدمتهما لهما راهبات الدير واقترب أحدهما من إبراهيم، الذي جعل ينظر إليهما باستياء شديد، وسأله: (مين بيضرب أنت)؟ وتقدم الآخر إلى رشيد وسأله: (مين بيضربك أنت)؟ فنسي إبراهيم جرحه واستغرق في الضحك، ولم يتمالك رشيد عن متابعته، ولكن لما عاد الدركيان سؤاليهما نفذ صبر إبراهيم فصاح بهما بصوت دوت له الغرفة: (أخرجا حالاً من هنا! وإلا...) وحاول النهوض، ولكن ما كاد الدركيان يسمعان صيحته الشديدة حتى أسرعا بالخروج وعادا إلى المركز حيث قدما إلى الرئيس السوري تقريراً لم يفهم منه شيئاً ولكنه أظهر اكتفاءه به.

بعيد ذلك جاءت رئيسة الدير فتفقدت حالهما وأوصت بالعناية بهما وقبل أن تترك الغرفة أبتهلت إلى الله أن يرد عنهما الخطر.

أخيراً خلت غرفة الجريحين من الناس فالتفت كل منهما إلى الآخر وهو يبتسم وقال رشيد: (منذ هنيهة قلت لي يا إبراهيم أن ما قد قمت به لغز، وأنا نفسي كنت أعتقد أنه أعظم لغز ولكني وجدته لا يستحق الذكر بالنسبة إلى ما قد فعلته أنت فقد كدت تترك الرجل يقضي عليك في حين أن الضربة كانت لك لا له، وهذا أغرب ما رأيته منك).

فأجابه إبراهيم: (أو لم تقل لي أن للألغاز لذتها، فهل ابتدأت تشعر بها كما أشعر أنا بها الآن)؟

قبل أن يتمكن رشيد من الإجابة فتح الباب ودخلت منه القروية الراقصة واقتربت ببطء من سريري الجريحين ووقفت عند مضجع إبراهيم، وكان إبراهيم ينظر إليها ساكناً متعجباً، لأنه لم يكن ينتظر مجيئها، فنظرت في عينيه وقالت بصوت خافت: (قد رأيت وفهمت... كيف جرحك)؟

(( إنه بالغ ولكنه ليس خطراً)) أجاب إبراهيم وهو لا يزال ينظر في عينيها كأنه يرى فيهما لغزاً يريد أن يستجليه.

(أشكرك وأتمنى لك شفاء سريعاً) قالت ذلك وتحولت إلى رشيد وسألته (وأنت أيها السيد كيف جراحك)؟

لا أظن أنها ذات بال شكراً لك

(شفاك الله عاجلاً) ثم نظرت إلى إبراهيم طويلاً وعادت أدراجها مسرعة فشيعها الاثنان بأنظارهما إلى أن توارت وراء الباب ولم يعودا ينبسان بينت شفة.

بعد قليل كان رشيد قد نام أما إبراهيم فأصيب بأرق شديد وهواجس منعته من النوم، فاستلقى وأطلق فكره في مجال التصورات وكان بين حين وآخر يستعيد ما مر به في العشية ويسائل نفسه: (أما كان علي أن أضربه لينال جزاءه؟ ولو فعلت ذلك فبأي عينين كانت تنظر إلى الفتاة)؟ وطال به الأمر حتى نبا جنبه عن الفراش فنهض وخرج من الغرفة ومشى الهويناء في الرواق المؤدي إلى غرفة الطعام وهو لا يدري إلى أين يذهب حتى إذا بلغها أراد أن يعود ليصعد إلى السطح وكان إلى جانب باب قاعة الطعام مربع منكشف اتخذه بعض القرويين محلاً لهم وكان مناراً بقنديل ضئيل النور، فاقترب إبراهيم من ذلك المربع وجعل يتأمل النيام وأكثرهم من النساء والفتيات ولا فرش تحتهم سوى بسط، أغطيتهم شراشف خفيفة، ونظر تحت ضوء القنديل رأس فتاة تدلى منه شعر مسود ستر بعض وجهها الأسيل وعنقها الجيداء، وللحال عرف الراقصة القرية وكانت نائمة بين أترابها، فخفق فؤاده لهذه المفاجأة وتقدم من حافة المربع المرتفعة وقعد عليه يتأمل وجه الفتاة وعينيها الساحرتين فتململت الفتاة تحت نظره ولكنها لم نستيقظ، لأن النوم كان مثقلها.

وبقي إبراهيم في مكانه ساهراً يكلأ الفتاة ويسامر نجواه حتى انقطعت ضوضاء القوم في الخارج وهدأت الرجل، وفيما هو كذلك لاحظ أشباحاً تقترب نحوه ثم تعود أدراجها وبدا له أن لهذه الأشباح قصداً وأنه يرى بينها قامة جرجس وطريقة خطوة فما برح مكانه حتى طلع الفجر وقامت الراهبات إلى صلواتهن.

في ذلك الصباح برحت الراقصة وزمرة من رفيقاتها الدير عائدة إلى قريتها وغادر إبراهيم ورشيد صيدنايا إلى دمشق حيث أسعفا بالعلاج ورجعا بعد ذلك إلى بلدتهما في لبنان وبعد مدة قصيرة شفيت جراحهما شفاءً تاماً.

منذ ذلك الحادث طرأ على حياة إبراهيم تغير كبير لم يخف على أحد من الذين كانت لهم به صلة، فتبدلت أطواره من النشاط والانشراح على الفتور والتأمل وانقطع عن التحدث إلى رفقائه، كما كان يفعل من قبل، وصار يفضل الصمت وأخذت علائم الكآبة تظهر على محياه، فلاحظ أصحابه ذلك منه وعبثاً حاولوا أن يعيدوه إلى سابق عهده، وانتقل رشيد إلى بيروت لمتابعة دروسه فلم يعد إبراهيم يراه وظل وحده في البلدة يستعيد حوادث صيدنايا ويحاول أن يستجلي غوامضها، ثم ابتدأ يشعر بسأم مما هو فيه فجرب أن يصرف صيدنايا عن فكره ولكن عبثاًُ، ففي الشتاء في لبنان، لا يستطيع ذو العاطفة أن يبعد فكره عن التصورات لأن تساقط الثلج في الخارج وتوهج نار الموقد في الداخل والسكون الذي يشمل الطبيعة، كل هذه العوامل تطلق للفكر مجال التصور وتفتح إلى التنفس طريقاً للمؤثرات، فرأى أن يسلو بالمطالعة وكاد ينجح لولا صور كانت تنتصب أمامه فتقاطع مطالعاته أو أفكاره الأخرى وتجلب معها كل الذكريات التي اكتنفتها، ألا وهي صور الفتاة الراقصة في صيدنايا حين كانت ترقص وحين زارته بعد جرحه وزودته نظرة لم يفقه معناها في الحال ولكنه أخذ يشعر بتأثيرها أكثر فأكثر مع مرور الزمان وابتدأت معانيها تنجلي له مع تعاقب الأيام حتى صار يشعر لأول مرة في حياته بذلك الشعور السري العجيب الذي يدفع الوعل إلى الهيام على وجهه في أيام الربيع، حاكاً بقرونه الجديدة سوق الأشجار وأغصانها حتى إذا التقى بوعل آخر حاله كحاله التحم وإياه بعركة فاصلة تشتبك فيها قرونهما اشتباكاً يقضي على كليهما بالهلاك، بل أنه أبصر في الحلم وعلاً عظيماً وقف على قنة جبل عال وقد أعلولت قرونه إلى الجو، ثم رآه ينقض على وعل آخر عظيم مثله، فسرّه ذلك وأقلقه معاً.

ظلت الحال بإبراهيم على هذا الموال إلى أن حسر الثلج عن وجه الأرض وأورق الشجر ونور الزهر واكتست الأرض حلة سندسية، فلها إبراهيم قليلاً بمناظر الطبيعة، فكان يخرج للتفرج كل صباح ومساء ولكنه لم يعد إلى مرحه السابق، وزال هذا الفصل وجاء الصيف وعاد رشيد من المدرسة ألا أن الصديقين لم يجتمعا إلا نادراً إلى أن لم يبق لعيد صيدنايا سوى أيام معدودة، ففي صباح يوم جميل أقبل رشيد على إبراهيم عند الفجر ودعاه إلى النزهة، لأن له ما يريد أن يحدثه به، فلبى إبراهيم الدعوة وسار الاثنان إلى إحدى الغابات البعيدة ليكون انفرادهما تاماً وهناك أضطجعا تحت أشجار الصنوبر، فقال رشيد:

(هل تذكر ذلك الشاب الذي بارزناه في صيدنايا في العام الماضي)؟

(أذكر).

(كنت وعدتك بأن أحدثك في الأمر الذي دعاني إلى مبارزة ذلك الشاب وقد رأيت أن أفي بوعدي الآن: أنت لابد تذكر الفتاة التي دخلت إلى غرفتنا ونحن جريحان وتفقدت حالنا) فخفق قلب إبراهيم خفقاناً شديداً ولكنه ظل صامتاً ينتظر تتمة حديث صديقه الذي تابع (أعلم أن هذه الفتاة رصيفة التلمذة وكانت تأتي كل سنة إلى مدرسة البنات القومية في بيروت، وذلك الشاب الذي بارزته من بلدتها ومن عائلة لها نفوذ كبير فيها وأظنك لم تنس أنه يدعى جرجس، ففي ذات يوم جاء جرجس إلى بييروت وذهب إلى مدرسة البنات حيث قابل الفتاة بحجة أنه يحمل إليها كتاباً من أبيها، وفي اليوم التالي قام بزيارة أخرى للفتاة، وكنت أنا هناك في زيارة لنسيبة لي هي صديقة حميمة للفتاة، فجرى له معها حديث حاد انتهى بأن الشاب حاول اختطافها فأسرعت وحلت بينه وبين تنفيذ ما عقد العزيمة عليه، فحقد عليّ جرجس منذ ذلك اليوم وصار كلما رآني تهددني وتوعدني إلى أن كان ذات يوم اتفقنا فيه على المبارزة فاقترحت أن يكون ذلك في دير صيدنايا فقبل وهكذا كان كما تعلم، أما الفتاة فلم تكن تعلم شيئاً من أمري ولكني وقفت من نسيبتي على الكثير من أمرها، فعلمت أن الفتاة تدعى نجلا وأنها مضطرة إلى مجاملة جرجس لأن أمه كانت قد اعتنت بها في صغرها بعد وفاة أمها وهي كانت ترجو منها أن تفعل ذلك من أجلها، والظاهر أن أم جرجس كانت تأمل أن تولد هذه المجاملة حباً ينتهي بزواج الاثنين لأنها أحبّت صفات نجلا وأخلاقها، وكانت الفتاة تحب الأم وتفعل ما يرضيها ولكن البون الشاسع بين نفسها ونفس جرجس جعل مبادلتها إياه الحب أمراً مستحيلاً.

وعلمت أيضاً أن أم نجلا كانت قد نذرت عن ابنتها زيارتين لدير صيدنايا وأن الأبنة تريد أن توفي نذر أمها وهو ما جعلني أقترح على جرجس أن تكون المبارزة هناك، لأني كنت موقناً أنه سيتبعها إلى هناك، ولقد ماتت أم جرجس منذ بضعة أشهر وزال ما كان يدعو نجلا إلى مجاملة أبنها فكتبت إلى صديقتها نسيبتي تقول أن جرجس يلاحقها الآن ملاحقة شديدة تتألم منها وذكرت لها في آخر الكتاب أنها ذاهبة إلى صيدنايا في عيد العذراء لكي تقوم بالزيارة الثانية من ِأجل أمها، ويقيني أن جرجس سيتبعها إلى هناك هذه المرة كما في المرة السابقة ويحاول اختطافها هناك لأنه قد لا يجد فرصة أوفق من هذه للقيام بذلك).

عند هذا الحد انتهى حديث رشيد، أما إبراهيم فإنه كان يصغي إلى الحديث المتقدم بصمت وإمعان، ثم أنه استرسل في تِأملات عميقة واستغرق فيها استغراقاً لم يعد يعي معه على شيء، فقام رشيد وانصرف على مهل دون أن ينتبه إبراهيم إلى انصرافه، أخيراً انتبه ووجد نفسه وحيداً فتعجب من حاله ونهض وعاد إلى البيت وقد نسي كل القصة التي حدثه بها رشيد، ولكن أمراً واحداً رسخ في ذهنه ورسا رسو الجبال فلم يعد شيء في العالم يتمكن من زحزحته: نجلا- صيدنايا؟.

في تلك الليلة حلم إبراهيم كثيراً، ومرة ِأخرى أبصر في حلمه وعلاً عظيماً على قمة جبل عال، رافعاً رأسه مطاولاً بقرونه السحاب، وحدق إبراهيم في قرونه فوجدها محدودة كرؤوس الحراب، ثم نظر إلى عينيه فوجدهما ترسلان أشعة تشبه الأشعة التي ترسلها الشمس من خلال الغيوم فهي مستقيمة وحادة وكان منظره وهو يتنشق الهواء بلهفة، لعله يجد فيه رائحة مخصوصة يرتاح إليها، منظراً رائعاً يأخذ بمجامع القلب، أخيراً رآه يتنشق الهواء بسرعة بمنخريه اللذين كانا يهتزان للشم ويحول رأسه نحو جهة معلومة وينطلق كالسهم! فتململ إبراهيم في فراشه واستيقظ وإذا الفجر قد لاح. ولكنه لم ينهض حالاً بل ظل مستلقياً يتأمل في حلمه والوعل العظيم الذي رآه.

ظل إبراهيم منفرداً خالياً بنفسه، متحاشياً الاجتماع بأي كان من أصدقائه ومعارفه كل الأيام القليلة الباقية لمجيء عيد سيدة صيدنايا، وكان صامتاً وهادئاً وفي هدوئه دلال انصباب الفكر على مسألة معينة هامة، كان ذلك الهدوء أشبه شيء بستار المرسح المسدل الذي يدل على الاستعدادات المتخذة وراءه، فبعث تصرفه هذا على استغراب معارفه أمره استغراباً شديداً، فمن جميع تصرفاته الغريبة لم يستغربوا أكثر من تصرفه الجديد الذي وقفوا حياله حيارى لا يدرون ما يبدون ولا ما يعيدون، وهم الذين يعدون أنفسهم صحبه وتلاميذه ويدافعون عن كل تصرفاته السابقة ويردون التهم التي كان جماعة يحاولون إلصاقها به لمجرد أنهم لم يكونوا يستطيعون فهم أطواره وشذوذه عن هذا البطل الذي كان آية في القوة والبطش ومثالاً للشجاعة والإقدام والقدوة صالحة في الاعتماد على النفس، وأخذ بعضهم يتكهن بأفول نجمه وتداعي بنائه الفخم، فوقع ذلك عند الفريق الذي ظل يوده ويحترمه ويؤمن به واقعاً أثار أسفهم الشديد وكاد يؤدي إلى الشقاق بينهم وبين أولئك المتكهنين.

وقع عيد سيدة صيدنايا هذه المرة في يوم أحد، فلما كان الصباح استيقظ إبراهيم باكراً ونهض إلى تمريناته وحمامه البارد، وكان نشيطاً في قوته، رائق النفس، مرتاح البال، ثم بادر إلى لوازم سفره فجمعها في حقيبة يدوية صغيرة وودع أهل بيته بعبارات مقتضبة وتوجه إلى صديق له عنده سيارة وقال له: (هلم نسافر معاً يا أنيس).

(ماذا؟ هذا أنت يا إبراهيم؟ وإلى أين نسافر)؟

(إلى صيدنايا، فإن لي نذراً يجب عليَّ أن أوفيه هناك في هذا العيد).

فاكتفى أنيس بهذا الجواب لأنه كان يعرف مزاج إبراهيم الذي لم يكن يطيق كثرة الأسئلة والكلام في مهماته ومشاريعه فبادر إلى إعداد سيارته وبعد نصف ساعة خرجا بها وحدهما ولم يعلم أمرهما أحد في البلدة، وفي طريقهما عرجا على دمشق حيث تغديا معاً وشاهدا بعض أسواقها القديمة، ثم تابعا مسيرهما إلى صيدنايا فبلغاها عند العصر وكان الدير قد امتلأ بالخلق وسيارات القادمين لا تزال تتوافد بكثرة، ولاحظ إبراهيم أن الإقبال على العيد هذه السنة يربي على الإقبال في السنة الماضية فطاف وصديقه نواحي البلدة ودخلا الدير وطافا به حتى المساء.

عندما دخل إبراهيم الدير وجده غاصاً بالخلف كما في المرة الأولى، والقوم في هرج ومرج عظيمين، ففي ساحاته وعلى سطوحه اجتمعت جماهير غفيرةِ، وكانت الدبكة في الساحات آخذة مجراها كالسابق: حلقات للرجال وحلقات للنساء والجماعات المحيطة بها تصفق وتصيح مثيرة الحماسة في الراقصين.

فلما شاهد إبراهيم هذه الحلقات خفق قلبه خفقاناً شديداً وثارت في نفسه عاصفة من الانفعال لم تلبث أن تلاشت وعاد إليه هدوءه ورباطة جأشه، فجعل يجيل نظره في الناس بسرعة ولكنه لم يجد من يستقر عليه، وبينما هو كذلك رأته بعض النساء وجعلن يتهامسن قائلات: (أنظرن! هذا هو الرجل الذي جازته القديسة أم بزاز في السنة الفائتة بأن جرح من خصمه في البراز بالحكم) وبأسرع من البرق تنوقلت هذه العبارة وتجاوزت النساء إلى الرجال، أما إبراهيم فإنه لم يسمع شيئاً قط وهو لو سمع شيئاً لما كان أعاره اهتمامه فقد كان له شوال نفسه ما يغنيه عن شواغل الناس.

بعد أن أجال إبراهيم نظره في تلك الجموع طويلاً دون أن يحظى بما يستوقفه ترك مكانه وشرع ينتقل من مكان إلى مكان على غير هدى من أمره وأنيس يرافقه صامتاً، متعجباً حتى أشرفت الشمس على المغيب، وكان أنيس قد لاحظ قلق إبراهيم الداخلي وشردو فكره فقرر أن يبقى في الساحة ا لكبرى ينتظره ويراقب ما يجري، وتابع إبراهيم تجواله دون أن ينتبه إلى تخلف صديقه عنه، ثم أنه عاد فمر في الساحة الكبرى حيث كان أنيس دون أن يراه أو يفتقده، وجاوزها إلى ممر يؤدي إلى جناح الدير الأيسر من المدخل فمشي فيه إلى آخره، وإذا هناك مدخل إلى غرفة صغيرة فدخل فيه ووجد نفسه في غرفة صغيرة خاوية، وفي مؤخرها باب يؤدي إلى غرفة أخرى فولج هذا الباب ووقف قريباً منه، لأن الغرفة كانت مظلمة لمن يأتي من الخارج فهي أشبه شيء بكهف عميق ولا ينفذ إليها نور النهار إلا من كوة صغيرة في أعلاها لا تطل على الفضاء الرحب بل على حائط من حيطان الدير.

بعد قليل ابتدأ إبراهيم يتبين ما في هذه الغرفة على نور شمعات قليلة متفرقة في جوانبها فرأى أن جدرانها مبطنة بصور القديسين فتزحزح من موقفه وأخذ يطوف بالمكان ويدقق النظر في الأطر المعلقة حتى بلغ صورة كبيرة قائمة في وسط الغرفة مضاءة أمامها شمعتان أكبر قليلاً من بقية الشموع، فلم يشك في أن الصورة هي صور العذراء التي تخشى راهبات الدير أن يخرجنها من ذلك المكان المظلم ويعرضن قداستها للنور وخطر الضياع، فاقترب من إحدى الشمعتين ليتمكن من رؤية الصورة عن كثب. وما أن فعل حتى استلفت نظره شخص امرأة كانت واقفة أمام الصورة بين الشمعتين وهي كأنها تتأملها أو تناجيها، فبهت إبراهيم لهذه المفاجأة وتعجب من أنه لم ينتبه إلى وجود إنسان آخر في هذا المكان من قبل وهمّ بالتراجع، ولكن المرأة كانت قد شعرت بوجوده قربها وحولت وجهها إليه لترى من هو، وكم كانت دهشته عظيمة حين تبين على نور الشمعة الضئيل التي بينهما وجه نجلا: الراقصة القروية التي ظلت صورتها مطبوعة على مخيلته بوضوح تام حتى كأنه رآها أمس لا منذ سنة! ولم تكن دهشة الفتاة أقل من دهشته حين رأت قامته وعرفت وجهه، فوقف الاثنان ينظر كل منهما إلى الآخر نظر من هو على يقين من أن ما يراه حقيقة لا حلم.



لا يحاول الراوي التعبير عن العواطف التي استولت على قلبي هذين الاثنين في هذه الدقيقة لأنه يعلم أن لبعض العواطف البشرية لغة لا يمكن الاستعاضة عنها بلغة النطق، وهو لا يريد إفساد الأصل بالترجمة بل يفضل متابعة سرد القصة:

(أنت هنا)؟ قالت الفتاة بصوت خافت يقارب الهمس، فطرق هذا السؤال مسامع إبراهيم بشكل مخصوص فهم منه: (أعلن قصد مجيئك)؟

فأجابها بصوت لا يعلو كثيراً عن صوتها ولهجة توكيدية ثابتة (نعم، أنا هنا)!

عند هذا الجواب لمعت عينا الفتاة الكسيفتان وقالت: (لقد كنت أفكر منذ هنيهة وأسائل نفسي: - هل يجيء)؟

•- (هل شككت في مجيئي)؟

•- (أرجو أن تحملني على الإباحة بجميع الهواجس التي انتابتني بين عيد سيدة صيدنايا الأخير وهذا اليوم).

فأخذ إبراهيم يدها بين يديه وقال: (لقد جئت وفي نيتي أننا إذا التقينا فلا فراق، فما هي نيتك أنتِ)؟

•- (أنت الشخص الوحيد الذي تمنيت من كل قلبي أن يبقى إلى جانبي دائماً، فقد أرعبني الكثيرون وملأوا نفسي اشمئزازاً وخوفاً)!.

فضمها إبراهيم إلى صدره بلهفة وطبع على شفتيها قبلة حارة وأجابها:

•- ( إننا لن نفترق ولن يخيفوك بعد الآن)! وخرج وإياها من الحجرة وهو يطوقها بيمينه القوية.

كان الليل قد غشي تلك النواحي ولكن القمر كان قد طلع وأضاء نوره هذه البقعة، فاجتاز إبراهيم ونجلا الممر المؤدي إلى الساحة الكبرى وهما على الحالة التي كانا عليها حين خرجا من غرفة العذراء ولم يلتفتا إلى أحد من الأشخاص الذين كانوا واقفين أو مارين فيه، أما هؤلاء فإنهم حالما رأوهما شغلوا بهما عما كانوا فيه وجعلوا يتبعونهما بأعينهم مشرئبي الأعناق نحوهما، مستغربين مظهرهما الذي لم يكونوا قد رأوا مثله من قبل، فلما بلغا الساحة وجدا ما لم يكن في حسبانهما: ففي وسطها وقف جرجس البطل المبارز في السنة الماضية نفسه وهو يحمل بيده اليمنى سيفاً مصلتا وباليسرى ترساً وراعاه متقاطعتان وأمامه على الأرض سيف وترس آخران كان الرجال المحيطون به يتشوقون ليروا من ذا الذي سيلقطهما، فلما رأى إبراهيم هذا المشهد ضم الفتاة إلى صدره ووقف يحدق إلى جرجس ولفيفه تحديق النسر، حينئذ أ درك الرجال والجمع الذي وراءهم أن شيئاً غير اعتيادي سيأخذ مجراه، وكما بسحر ساحر انقلبت سحن الرجال الذين يحفون بجرجس من الهيئة الهزلية التي كانت عليها إلى هيئة جدية جعلت وجوههم تشبه تماثيل الشبه.



ولم يشأ إبراهيم أن يبقى واقفاً في مكانه فمشى برفيقته بضع خطوات محاولاً أن يتابع سيره فاعترضه جرجس وهو لا يزال على الشكل المتقدم وصفه وقال له: (إن ذاك السيف الذي تراه على الأرض ينتظرك لإنهاء البراز الذي بدأناه السنة الماضية في مثل هذا اليوم).

ما كاد جرجس ينتهي من عبارته هذه حتى أحس إبراهيم أن نجلا ارتعشت مع أن ذراعه اليمنى مطوقتها، فالتفت إلى من حوله وإذا أنيس واقف إلى جانبه وفي يده عصاه الكبيرة التي لا تفارقه فقال له: (أعطني عصاك وخذ هذه الفتاة إلى السيارة وأنا أكون هناك بعد دقيقة)، وتناول العصا وتقدم أنيس من الفتاة على السيارة وأنا أكون هناك بعد دقيقة)، وتناول العصا وتقدم أنيس من الفتاة ليقودها ولكنها أبت الذهاب وقالت لإبراهيم: (أما أن نبقى معاً وأما أن نذهب معاً) فنظر إليها إبراهيم بحنان وقال لأنيس: (إذن ابق إلى جانبها إلى أن أعود)، ثم تحول إلى جرجس وقال له: (لا حاجة إلى ذاك السيف فإن هذه العصا تكفي لتأديبك فخذ مكانك سريعاً)!

أراد جرجس أن يمتنع لكن إبراهيم أمسكه من عضده وضغط عليه بأصابعه الفولاذية وهزه بشدة وقال له: (إذا لم تقبل اضطررت إلى ضربك كما يضرب الأولاد الصغار الطائشون، فأدرك جرجس من قوة خصمه ولهجته الثابتة أن لا مناص له من الإذعان فالتفت إلى رفقائه وقال لهم: (اشهدوا أني بريء مما سيحدث)، ثم تراجع إلى متوسط الساحة وتقدم إبراهيم أيضاً بضع خطوات وقبض على عصاه من طرفها الدقيق وأدار رأسها الضخم في الهواء.

أخذ جرجس أولاً في اللعب بسيفه وضربه على ترسه وما كاد ينتهي من ذلك ويتحول إلى المجاولة، حتى أقبل إبراهيم نحوه بخفة الأسد وثباته وجاوله مرة واحدة فقط أطبق بعدها عليه مديراً عصاه بسرعة ومهارة عظيمتين، ثم فرّ منه وعاد فكّر عليه كرّة لم يكن ذاك يتوقعها وباغته مباغتة خبلته حتى لم يعد يحسن الدفاع وحانت الفرصة فأهوى عليه بضربة شديدة أصابته في قمة رأسه وألقته على الأرض صريعاً، وبينما الناس في دهشة عظيمة مما حدث ذهب إبراهيم إلى رفيقه وأحاط نجلا بذراعه اليمنى كما في الأول واجتاز بها الممر المؤدي إلى الخارج وتبعهما أنيس يحمل عصاه التي استعادها.

في هذه الأثناء كان رجال جرجس قد تغلبوا على دهشتهم فخرج أربعة منهم في اثر إبراهيم، فتصدى أنيس بعصاه لاثنين منهم وكرَّ إبراهيم على الاثنين الآخرين فأمسكهما من عنقيهما ودق رأسيهما الواحد بالآخر دقاً أفقدهما الصواب وألقاهما برفق على الأرض، فلما رأى الاثنان الباقيان ما حل برفيقيهما فرَّاً هاربين ودخلا الدير وهما يقولان: (إن الشيطان يحميه)! فأجابتهما إحدى النساء المشاهدات (بل العذراء تحميه)! وسمع جوابها بعض القرويين فعدوا هذا الحادث من عجائب سيدة صيدنايا الكلية القداسة وهم لا يزالون يروونه من هذا القبيل.

أما إبراهيم ونجلا وأنيس فتابعوا سيرهم إلى السيارة وركبوها وساق أنيس في طريق قرية ن... حيث تقطن نجلا، فبلغوها بعد سير ساعتين تقريباً وترجلوا أمام بيت قروي معتدل وطرقت نجلا الباب وبعد هنيهة فتح الباب ودخلوا البيت ولم يكن فيه أحد سوى والد نجلا الشيخ.

في صباح اليوم التالي جرى عرس بسيط جداً جمع الفرح والرضى ولم يجمع شيئاً من الضوضاء، وأصبح إبراهيم ونجلا زوجين.

لا يستطيع من لم يشهد الحادث بنفسه أن يتصور مبلغ دهشة أهل بيت إبراهيم عندما عاد مصطحباً نجلا وقدمها إليهم بصفة كونها امرأته، ولا شدة وقع ذلك عند معارفه والذين كانوا يعرفون عنه، خلا رشيداً فإنه قدر الحادث وأخذ ينتظره منذ علم أن إبراهيم برح البلدة يوم العيد، وأقبل كثيرون يريدون تهنئته ولكنه كان حالماً يشعر بقدوم أحد لزيارته يأخذ نجلا ويخرج وإياها من الباب الخلفي ويذهب الاثنان يتنزهان في الغابات، فأدرك أهل البلدة الحيلة وأخذوا يرصدونهما يكادون يذوبون شوقاً إلى رؤية الفتاة التي أصبحت امرأته.

ولم يكن بينهم من لم يتوقع أن يراها بدينة رجراجة، فلما أتيح لهم أن يلحظوها ووجدوها فتاة ضامرة الحشى، لطيفة الجوانح بهتوا وانصرفوا وهم يشكون فيما رأوا.

أخيراً أجمع الناس الذين يجعلون أنفسهم دائماً المثل الطبيعية للأطوار البشرية على أن الحادث أمر غير طبيعي، ولم يعدم الشبان الذين كانوا يحسدون إبراهيم والشابات اللواتي كان يغيظهن بتصرفه السابق شيئاً جديداً يضيفونه إلى اختلافاتهم الماضية.

أما إبراهيم ونجلا فلا يزالان يعيشان سعيدين جداً، وكلما عاد إبراهيم إلى نفسه تذكر صديقه رشيداً وتلك الحكاية التي قصها عليه في الغابة والوعل العظيم الذي أبصره في الحلم، أما صور الجمال التي كانت أفكاره السابقة تحوم حولها فقد نسيها بتاتاً.

http://m3rouf.mountada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى