ولما بلغنا منزل السيد ك. استقبلتنا ربته، فلاحظت أنها تهتم كثيراً لهذه الزيارة، بل بدأ لي أنها تعلق عليها أهمية غير اعتيادية وأن لها من ورائها غاية، فرحبت بنا ترحيباً كثيراً وأظهرت سروراً وابتهاجاً زائدين.
لم يكن السيد ك. وزوجته سوريين بل أجنبيين، وكان لهما معارف في دائرة معينة من المجتمع السوري، والسيدة ك. تتكلم العربية بلهجة سورية وبدون تكلف إلا أن أغلاطها غير قليلة ولفظها غير صحيح، وكان عندها في البيت ساعة مجيئنا زائرتان هما الآنسة السورية أسما والسيدة الأجنبية و. وهذه الأخيرة كانت متزوجة رجلاً سورياً ولم يكن قد مضى على وجودها في سوريا زمن طويل، فقامت السيدة ك. بتقديمنا إلى هاتين الزائرتين ثم جلسنا وجعلنا نتحدث والحديث ذو شجون.
وكان من قسمتي أن استقل والآنسة أسما بحديث طويل تناول البحث في شؤون المرأة العصرية ومركزها في محيطنا، وأخذت السيدة ك. في مجادلة زوجها في بعض الشؤون جدالاً حاداً، وبقي سليم في مركز لا سبيل معه إلى الاختيار، ولاحظت أنه مرتبك قليلاً لأن السيدة و. كانت تطيل النظر إليه وتنتظر أن يحدثها، وكانت إذا تحدث تميل إليه بكليتها وتظهر بصورة مخصوصة أنها تسمع كل نبرة من نبرات صوته.
أرى أنه لا غنى لي عن وصف هذه الأجنبية و. الرقيقة العود، اللدنة القوام، المعتدلة القامة والتي لها وجه صبيح وبشرة بيضاء ناعمة وحاجبان ظاهرة العناية في تزجيجهما حتى صارا كقوسين، ولها في قيامها وقعودها بها ولكنه كان مضطراً اضطراراً إلى مجالستها ومحادثتها.
ولقد علمت فيما بعد أن هذه السيدة كنت غير سعيدة مع زوجها، فهو كان ممن لا تزل تقاليد التربية القديمة تجعل لتصرفه نوعاً من الخشونة والفظاظة مستتراً وراء حجاب التهذب والرجولة الذي اكتسبه في أثناء وجوده في أوروبا فكان يختلف من هذا القبيل اختلافاً كبيراً عن زوجته التي كانت قد ربيت في محيط أوروبي ارتفعت فيه أساليب المودة وتكلف اللطافة إلى مستوى عالٍ.
إذن كانت السيدة و. غير سعيدة وكانت تتوق إلى السعادة في هذا المحبط الجديد المتراوح بين ما هو عريق في التقاليد وما هو جديد في التمدن، ولكن هذه حقيقة لم أكن أدري بها في هذا الاجتماع، على أني كنت أشعر أن لهذه السيدة ميولاً غريزية قوية تملك قيادها وتتسلط على إرادتها.
وبعد مدة قصيرة فرغت السيدة ك، من مناقشة زوجها والأصح أنها لم تفرغ قط ولكن زوجها كان يريد الذهاب لبعض أغراضه، فاعتذر إلينا واستأذن وانصرف، وما كاد يخرج من الباب حتى تحولت السيدة ك. إليَ وإلى الآنسة أسما ولم تلتفت إلى السيدة و. وسليم، بل أنها تجاهلت وجودهما بالمرة، فأيقظ عملها هذا فطنتي، ليس لأنه غريب فلا غرابة قط به، بل لأن سليما لم يكن من الرجال الذين يميلون إلى التحدث، وكنت أعرف أنه يحتقر الأحاديث الاغتصابية التي لا تدور حول موضوع معين ينتظر الفراغ منه، فهو لم يكن يتحدث لمجرد قتل الوقت بتجاذب الحديث.
وبينما فكري يتراوح بين هذه الظنون والأحاديث التي كانت دائرة بيني وبين الآنسة أسما، إذا بالسيدة ك. تدعوني وهذه الآنسة لمشاهدة مجموعة الملونات التي عنيت بجمعها وكمنت مشغوفاً بالصور الملونة حتى أني كنت أقف وقتاً طويلاً أمام ا لصورة الواحدة الهامة، مطيلاً النظر إليها كأني أحاول طبع ما فيها من دلائل الحياة وعظمة الفن في ذهني بحيث لا تعود تبرحه، فتبعت نحو عشرة أطر تتضمن كلها صوراً لملونين عصريين بينها ثلاث صور أعجبتني كثيراً: الأولى رأس قروي، والثانية برية جبلية، والثالثة منظر وردة على نور شمعة.
لا أدري كم دقيقة استغرق وجودنا في الغرفة المجاورة ولكني أدري أننا اجتماعنا فأدارت الغرامفون ولم يبق عن الرقص من محيد، لأن عدمه يعتبر إهانة لا سبيل إلى التفكير عنها عند السيدات المتأنقات، وأشارت إليّ ربة البيت أن أدعو الآنسة أسما للرقص ففعلت، أما سليم فظل مكانه لا يتحرك، فحضته السيدة ك. على الرقص ولكنه اعتذر بأنه لا يحسنه فلم يلق اعتذاره القبول وتبرعت السيدة و. بأن تعلمه قليلاً وكان سليم خجولاً جداً فقبل، خوفاً من أن يسيء التصرف، فجعلنا نرقص والتهت السيدة ك. بتدبير بعض الشؤون.
ولم ينته القرص الأول حتى وضعت السيدة ك. قرصاً آخر موسوماً (إني أحبك) ولاحظت أثناء رقص هذا الدور أن السيدة و. جعلت ذراعها حول عنق سليم بدلاً من أن تضع يدها على كتفه، وإنها كانت تضغط عنقه كلما صاح المغني (إني أحبك).
فلما انتهت هذه الرقصة رأيت سليماً قد تبدل كثيراً، رأيته منفعلاً أيما انفعال وهو ما لبث أن التفت إليَّ وقال:
((هلم نذهب يا صديقي، فإنهم ينتظروننا)).
ولم ينتظر أن أجيبه بل أنه أسرع إلى السيدة ك. فشكروها وودعها ثم تحول إلى السيدة و. فودعها وودع الآنسة أسما وخرج تاركاً السيدة و. مبهوتة جداً، وفعلت أنا مثل فعله وتبعته مهرولاً وقطعنا الطريق كلها صامتين حتى بلغنا منزل سليم ودخلنا غرفته فذهب سليم لتوه إلى البيانو وشرع يوقع ألحان قطعته التي كان قد اسمعنيها، ولكنه أكسبها هذه المرة قوة مؤثرة شديدة، وقد خيل إلي أنه بدل فيها أو زاد عليها، فاقتربت من البيانو ونظرت في وجهه فودت عينيه محمرتين والدموع تجول فيهما.
كانت المرة هذه، الأولى التي لاحظت فيها ظاهرة غريبة من هذا النوع لم أكن أعهدها في صديقي سليم من قبل، وانتهت القصيدة الموسيقية، ولكن يدي سليم ظلَّتا ضاغطتين على المواقع الأخيرة بينما كان هو يحدق في الأفق من النافذة، وكأني به سها عن وجودي معه في الغرفة، لشدة ما هو فيه،فرفع يديه عن مواقع البيانو وأخرج من جيبه محفظة فتحها وأخذ منها صورة وجعل يتأملها ويزيد التأمل كأنه يبحث فيها عن شيء جديد أو يتفقد شيئاً قديماً عزيزاً وبعد أن أطال النظر إليها أدناها إلى شفتيه وطبع عليها قبلة طويلة. ثم أخرج من جيبه منديلاً مسح به الدموع التي أخذت تتدفق من عينيه تدفقاً.
في هذه اللحظة انكشف لي سر الانفعال الشديد الذي استولى عليه على إثر تطويق السيدة و. عنقه بذراعها البضة وضمها إياه إلى صدرها أثناء الرقص، وتأكد لي أن حباً خالصاً قوياً يفعم نفسه، ورأيت سليماً في حاجة إلى الاختلاء وأن وجودي معه لا يخفف شيئاً مما به، فانسللت من الغرفة وعدت إلى منزلي وقد عقدت النية على أن أزوره في الغد، فلما زرته في اليوم التالي وجدته أميل إلى الهدوء وإن كان في مظاهره ما ينم عن بقية جزع.
مرت على أثر ذلك أيام عاد بعدها إلى سليم صفوه وعاوده جذله ونشاطه فعكف على عمله الموسيقي بارتياح نفسي جليّ، وتفاءلت أنا خيراً إلى أن كان ذات يوم زرته فيه فوجدته جالساً إلى البيانو على عادته، وأمامه أوراق السلم الموسيقية ينظم عليها أنغامه الجديدة، ويجربها ثم يمحو ويغير ويبدل حتى يستقيم له النغم الذي يريد، فجلست حذاءه وأخذت في مطالعة كتاب أدبي كان بيدي وتابع هو عمله، وبينما نحن كذلك إذا بالباب قد طرق ودخلت خادمة في البيت وفي يدها كتاب دفعته إلى سليم ففتحه وقرأ وفكر قليلاً ثم دفعه إليَّ فتناولته وقرأت:
بانتظارك كل يوم بعد الظهر في منزل السيدة ك. ولا أراك إلا ملبياً نداء الغرام، ولك مني الآن قبلة حارة أطبعها على توقيعي.
((و))
ولما فرغت من قراءة هذا الرقيم تبادلت وسليماً نظراً طويلاً ثم نهض سليم من مجلسه كمن تنبه لأمر خطير وذهب إلى طاولة صغيرة واقفة في زاوية من زوايا الغرفة، وكان يتخذها مكتبة له فجلس إليها وتناول ورقاً وقلماً وكتب رسالة إلى السيدة و. أطلعني عليها فإذا هي كما يلي:
(أيتها السيدة العزيزة لقد جمعتنا الصدفة في بيت السيدة ك. للمرة الأولى، وإنه ليؤسفني أن يكون ذاك الاجتماع قد أوجد في قلبك مثل العواطف القوية التي تتحدثين عنها، يؤسفني ذلك جداً لأني أشعر بما تعانين في حياتك من الآلام الداخلية دون أن يكون في إمكاني تخفيف شيء منها، وإني لو حاولت ذلك لكنت كاذباً في ما أقول أو أفعل وقلبي لا يطاوعني على الكذب وضميري لا يرتاح إلى الخيانة، فإن حباً أو أفعل وقلبي لا يطاوعني على الكذب وضميري لا يرتاح إلى الخيانة، فإن حباً حقيقياً يملأ نفسي، ومتى وجد الحب الحقيقي فلا سبيل إلى التبديل، وكل محاولة من هذا القبيل تكون بلا شك محاولة فاشلة، ولا أظنك ترضين الفشل لنفسك ولي، فتحملي آلامك بصبر فذلك فضيلة يندر مثلها وملا تدعي رجلاً ينغمس في الإثم، ثقي بأنني أشعر بالألم الذي تشعرين، ولكن لتكن آلامنا عبرة لا نكبة وإذا كانت نكبة فمن الخير أن تبقى فينا ومن الشر أن تنتقل إلى غيرنا.
(أشكر لكِ مدحكِ إياي، ولكن أخطأت في وضعي فوق أبناء قومي فما أنا إلا واحد منهم، وأرجو أن تحملي كلامي هذا على محمل الإخلاص، وإذا كانت العواطف التي في قلبك حقيقية فهي ولا شك تعينك على فهم ما أغلق على الآخرين والفهم يحولك عن طلب العزاء الخاص الذي قد يكون مصدراً للضرر إلى طلب العزاء العام، فكلنا يحتاج على العزاء. وتكرمي بقبول سلامي واحترامي.
((سليم))
وكان هذا الكتاب آخر العهد بالسيدة و.
ومرت بعد ذلك الأيام تباعاً، ومضى سليم في توقيعه وتأليفه وكنت أجيء إليه كل يوم أطلع على تقدمه في عمله وأسمع ما يجربه من الأنغام الجديدة التي تمثل عواطف قلبه القوية وأفكار دماغه السامية، وأبدي له ما يحدثه توقيعه فيَّ من التأثير العميق ثم أعود وقد تولاني جذل لا مزيد عليه، وكان إني انقطعت عن زيارته خمسة أيام متوالية كنت فيها مشغولاً بالبحث عن العصر الذي عاش فيه الشاعر السوري الاكليركي القديم الذي ذكر تاريخ الأدب الألماني لمؤلفه الفرد بيزي ( ) أن قصائده الإلهية ترجمت إلى اللاتينية ومن هذه إلى الألمانية وغيرها وأنها سبب نهضة شعرية في كل أوروبا، فلما زرته بعيدها لم أجده جالساً إلى البيانو كعادته بل ألفيته طريح الفراش في حال لا أخشى التصريح بأنها هالتني، فإن الأيام الخمسة الماضية كانت قد بدلته تبديلاً غريباً، فاصفر وجهه ونحل، وذبلت عيناه وهزل جسمه ومال إلى السقم، ونمت نظراته عن ألم نفسي عظيم، أثر بي منظره وهو على هذه الكيفية تأثيراً عميقاً وشعرت عين شعور الملون الفني الذي يعرف قيمة التلوين حين يرى ملونة بديعة جديرة بالخلود قد تمزقت أو متحفاً فنياً فخماً قد التهمته النيران، أو شعور الإنسان الذي يشاهد مدينة ضخمة عظيمة قد طغى عليها بركان هائل وأخذها على حين غرة، ولكن في الناس أنانيين شديدي التمسك بأنانيتهم حتى أنهم لو شاهدوا تهدم مدينة عظيمة زاهرة أو تلاشي شعلة الشباب والحياة من جسد إنسان لما شعروا بغير ما يشعرون حين ينظرون إلى شمعة تذوب احتراقاً أو إلى زهرة تذوي لانقطاع الماء عن جذورها والطل عن أوراقها، وهل يشعر الأناني بشيء حين يرى ذوبان شمعة أو ذبول زهرة؟ إني للأناني أن يفقه شيئاً من هذه الرموز وهو منصرف بكليته إلى لذاته ومصالحه؟
وقفت عند السرير أتفقد حال صديقي بلهفة وجزع ولكن سليما أجابني على نظراتي بتبسم وضح لي فيه معنى السخرية من كل شؤون الحياة، وكان وسط ما هو فيه من عواطف وزعازع داخلية يتمسك برباطة جأش نادرة المثال، فلم أتمالك عن الإعجاب به لهذه الخلَّة إعجاباً فاق ما كنت أضمره له من الإعجاب بأخلاقه وفنه، ثم لم يلبث أن خاطبني قائلاً:
(ما بالك واقفاً والكرسي إلى جانبك؟ أجلس لنتحدث قليلاً، أين كنت كل هذه المدة)؟
فجلست على الكرسي الذي أشار إليه وقلت:
كنت أنقب من العصر الذي عاش فيه تاتيان العظيم.
تاتيان؟ ومن تاتيان هذا؟
يذكر المؤرخ الأدبي الألماني الفرد بيزي، أن تاتيان شاعر سوري اكليركي مجيد نظم قصائد روحية كان لها تأثير عظيم في تطور الشعر الأوروبي عامة والشعر الألماني خاصة.
فزفر سليم ثم قال:
هل توفقت في تنقيبك أو هل عثرت على شيء من قصائد هذا الشاعر؟
"كلا، فالوقت لم يكن متسعاً بهذا المقدار ولا يخفي عليك أن آثارنا الأدبية مبعثرة تبعثراً لا مثيل له، وليس في البلاد معاهد أو مكاتب عامة أو خاصة تهتم بجمع شتات الآثار الأدبية السورية، والمؤسف أن يكون جل أدبائنا إن لم يكن كلهم جاهلين تاريخ أدبهم القومي جهلاً فاضحاً، حتى أنه لا يكاد يوجد بينهم من يشعر بوجوب التوقف عن ثرثرته ولو فترة قصيرة لينظر في حياته الأدبية نظراً أعمق من النظر السطحي الذي تعود أن يلقيه على الأدب والحياة جميعاً، أن معظمهم يسيرون في مقدمة الأدب التقليدي".
وما كدت أنتهي إلى هذا الحد حتى رأيت وجه سليم قد جف وتجهم دليلاً
على زيادة آلامه النفسية، قصمت وكنت راغباً في معرفة السبب الذي ألقاه في الفراش لغير مرض ولكني أشفقت عليه وصبرت على مضض، وبعد هنيهة قال سليم:
(إن آلاماً عظيمة، آلاماً لم يسبق لها مثيل، تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا، إذ ليس على الواحد منا أن ينكر ذاته فحسب بل عليه أن يسير وحيداً بلا أمل ولا عزاء، لأن حياتنا الاجتماعية والروحية فاسدة، فكيفما قلبت طرفك رأيت حولك نفوساً صغيرة متذمرة من الظلمة التي هي فيها ولكمنها لا تجرؤ على الخروج إلى النور، وإذا وجدت نفس تمديدها إليك مريدة أن ترافقك في سيرك نحو النور وجدت ألف يد أخرى قد امتدت إليها لتبقيها في الظلمة، ليس لابن النور صديق بين أبناء الظلمة، وبقدر ما يبذل لهم من المحبة، يبذلون له من البغض) وزفر صديقي زفرة حارة وتابع ذلك بلهجة ساخرة: ولأهل الظلمة مقاييس للأخلاق والشرف والخصال! ولهم أيضاً حدود للعواطف البشرية من تجاوزها كان معرضاً للسخط والانتقاد الشديدين، فإذا وجدت فيك عواطف تحملك على ترك المطالب الأنانية والأغراض الهزيلة وترفعك نحو مطلب أعلى يسمو على الشؤون الدنية فأنت معذب عذاباً أليماً بين أبناء هذا الجيل في هذا الوطن السيء الطالع.
قلت:
(إنك تتكلم الآن بمرارة نفس شديدة فهلا زدت ثقتك بي وأطلعتني على ما دهاك لعلي أجد رأياً فيه الخير)؟
- (لا حد لثقتي بك، ولكني أشفق أن تتحمل فوق ما أنت متحمل).
- (لا تشفق. فليس العلم بالسوء أعظم وطأة من الشعور به).
فنظر إليّ نظراً طويلاً ثم تناول من تحت وسادته كتاباً دفعه إليَّ فقرأت:
صديقي العزيز أخشى أن يكون الليل الذي لا صبح بعده قد أقبل فإني أكتب إليك هذه الكلمات القليلة لأسألك أن لا تأتي إلينا بعد اليوم وهذا خير لك ولي، ثق بأني قد فكَّرت ملياً قبل أن أقدمت على هذا السؤال وإذا كان لي في قلبك شيء من الاحترام فاحسبني صديقة ميتة، لا تكتب ولا تجتهد في أن تراني وأعلم أن أحد هذين الأمرين يسبب لي آلاماً شديدة.
(استودعك الله وإياه أسأل أن يشجعك ويمدك بالصبر في حياتك).
((صديقتك))
أعدت قراءة الكتاب باعتناء زائد ثم رفعت رأسي وقد تجلَّت لي خطورته وخطره، فقال سليم: (ليس هذا كل شيء أقرأ هذا أيضاً) وناولني كتاباً آخر تاريخه بعد تاريخ الكتاب المتقدم وعبارته كما يلي:
حضرة السيد الأكرم:
بعد السلام أبدي أه بالنظر إلى الصداقة التي تربطني وامرأتي بعائلة الآنسة دعد قد كلفتني وامرأتي بمخاطبتكم في قضية ابنتها تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها، فإذا أحببتم فتفضلوا بزيارتنا في منزلنا الكائن في شارع م. لنتباحث وإياكم بهذا الشأن إتماماً لرغبة السيدة الفاضلة سلمى ودمتم.
(حاشية: إذا قبلتم الدعوة فأرجو أن يكون حضوركم الساعة الثامنة مساء الجمعة أو السبت القادم).
لم يكن السيد ك. وزوجته سوريين بل أجنبيين، وكان لهما معارف في دائرة معينة من المجتمع السوري، والسيدة ك. تتكلم العربية بلهجة سورية وبدون تكلف إلا أن أغلاطها غير قليلة ولفظها غير صحيح، وكان عندها في البيت ساعة مجيئنا زائرتان هما الآنسة السورية أسما والسيدة الأجنبية و. وهذه الأخيرة كانت متزوجة رجلاً سورياً ولم يكن قد مضى على وجودها في سوريا زمن طويل، فقامت السيدة ك. بتقديمنا إلى هاتين الزائرتين ثم جلسنا وجعلنا نتحدث والحديث ذو شجون.
وكان من قسمتي أن استقل والآنسة أسما بحديث طويل تناول البحث في شؤون المرأة العصرية ومركزها في محيطنا، وأخذت السيدة ك. في مجادلة زوجها في بعض الشؤون جدالاً حاداً، وبقي سليم في مركز لا سبيل معه إلى الاختيار، ولاحظت أنه مرتبك قليلاً لأن السيدة و. كانت تطيل النظر إليه وتنتظر أن يحدثها، وكانت إذا تحدث تميل إليه بكليتها وتظهر بصورة مخصوصة أنها تسمع كل نبرة من نبرات صوته.
أرى أنه لا غنى لي عن وصف هذه الأجنبية و. الرقيقة العود، اللدنة القوام، المعتدلة القامة والتي لها وجه صبيح وبشرة بيضاء ناعمة وحاجبان ظاهرة العناية في تزجيجهما حتى صارا كقوسين، ولها في قيامها وقعودها بها ولكنه كان مضطراً اضطراراً إلى مجالستها ومحادثتها.
ولقد علمت فيما بعد أن هذه السيدة كنت غير سعيدة مع زوجها، فهو كان ممن لا تزل تقاليد التربية القديمة تجعل لتصرفه نوعاً من الخشونة والفظاظة مستتراً وراء حجاب التهذب والرجولة الذي اكتسبه في أثناء وجوده في أوروبا فكان يختلف من هذا القبيل اختلافاً كبيراً عن زوجته التي كانت قد ربيت في محيط أوروبي ارتفعت فيه أساليب المودة وتكلف اللطافة إلى مستوى عالٍ.
إذن كانت السيدة و. غير سعيدة وكانت تتوق إلى السعادة في هذا المحبط الجديد المتراوح بين ما هو عريق في التقاليد وما هو جديد في التمدن، ولكن هذه حقيقة لم أكن أدري بها في هذا الاجتماع، على أني كنت أشعر أن لهذه السيدة ميولاً غريزية قوية تملك قيادها وتتسلط على إرادتها.
وبعد مدة قصيرة فرغت السيدة ك، من مناقشة زوجها والأصح أنها لم تفرغ قط ولكن زوجها كان يريد الذهاب لبعض أغراضه، فاعتذر إلينا واستأذن وانصرف، وما كاد يخرج من الباب حتى تحولت السيدة ك. إليَ وإلى الآنسة أسما ولم تلتفت إلى السيدة و. وسليم، بل أنها تجاهلت وجودهما بالمرة، فأيقظ عملها هذا فطنتي، ليس لأنه غريب فلا غرابة قط به، بل لأن سليما لم يكن من الرجال الذين يميلون إلى التحدث، وكنت أعرف أنه يحتقر الأحاديث الاغتصابية التي لا تدور حول موضوع معين ينتظر الفراغ منه، فهو لم يكن يتحدث لمجرد قتل الوقت بتجاذب الحديث.
وبينما فكري يتراوح بين هذه الظنون والأحاديث التي كانت دائرة بيني وبين الآنسة أسما، إذا بالسيدة ك. تدعوني وهذه الآنسة لمشاهدة مجموعة الملونات التي عنيت بجمعها وكمنت مشغوفاً بالصور الملونة حتى أني كنت أقف وقتاً طويلاً أمام ا لصورة الواحدة الهامة، مطيلاً النظر إليها كأني أحاول طبع ما فيها من دلائل الحياة وعظمة الفن في ذهني بحيث لا تعود تبرحه، فتبعت نحو عشرة أطر تتضمن كلها صوراً لملونين عصريين بينها ثلاث صور أعجبتني كثيراً: الأولى رأس قروي، والثانية برية جبلية، والثالثة منظر وردة على نور شمعة.
لا أدري كم دقيقة استغرق وجودنا في الغرفة المجاورة ولكني أدري أننا اجتماعنا فأدارت الغرامفون ولم يبق عن الرقص من محيد، لأن عدمه يعتبر إهانة لا سبيل إلى التفكير عنها عند السيدات المتأنقات، وأشارت إليّ ربة البيت أن أدعو الآنسة أسما للرقص ففعلت، أما سليم فظل مكانه لا يتحرك، فحضته السيدة ك. على الرقص ولكنه اعتذر بأنه لا يحسنه فلم يلق اعتذاره القبول وتبرعت السيدة و. بأن تعلمه قليلاً وكان سليم خجولاً جداً فقبل، خوفاً من أن يسيء التصرف، فجعلنا نرقص والتهت السيدة ك. بتدبير بعض الشؤون.
ولم ينته القرص الأول حتى وضعت السيدة ك. قرصاً آخر موسوماً (إني أحبك) ولاحظت أثناء رقص هذا الدور أن السيدة و. جعلت ذراعها حول عنق سليم بدلاً من أن تضع يدها على كتفه، وإنها كانت تضغط عنقه كلما صاح المغني (إني أحبك).
فلما انتهت هذه الرقصة رأيت سليماً قد تبدل كثيراً، رأيته منفعلاً أيما انفعال وهو ما لبث أن التفت إليَّ وقال:
((هلم نذهب يا صديقي، فإنهم ينتظروننا)).
ولم ينتظر أن أجيبه بل أنه أسرع إلى السيدة ك. فشكروها وودعها ثم تحول إلى السيدة و. فودعها وودع الآنسة أسما وخرج تاركاً السيدة و. مبهوتة جداً، وفعلت أنا مثل فعله وتبعته مهرولاً وقطعنا الطريق كلها صامتين حتى بلغنا منزل سليم ودخلنا غرفته فذهب سليم لتوه إلى البيانو وشرع يوقع ألحان قطعته التي كان قد اسمعنيها، ولكنه أكسبها هذه المرة قوة مؤثرة شديدة، وقد خيل إلي أنه بدل فيها أو زاد عليها، فاقتربت من البيانو ونظرت في وجهه فودت عينيه محمرتين والدموع تجول فيهما.
كانت المرة هذه، الأولى التي لاحظت فيها ظاهرة غريبة من هذا النوع لم أكن أعهدها في صديقي سليم من قبل، وانتهت القصيدة الموسيقية، ولكن يدي سليم ظلَّتا ضاغطتين على المواقع الأخيرة بينما كان هو يحدق في الأفق من النافذة، وكأني به سها عن وجودي معه في الغرفة، لشدة ما هو فيه،فرفع يديه عن مواقع البيانو وأخرج من جيبه محفظة فتحها وأخذ منها صورة وجعل يتأملها ويزيد التأمل كأنه يبحث فيها عن شيء جديد أو يتفقد شيئاً قديماً عزيزاً وبعد أن أطال النظر إليها أدناها إلى شفتيه وطبع عليها قبلة طويلة. ثم أخرج من جيبه منديلاً مسح به الدموع التي أخذت تتدفق من عينيه تدفقاً.
في هذه اللحظة انكشف لي سر الانفعال الشديد الذي استولى عليه على إثر تطويق السيدة و. عنقه بذراعها البضة وضمها إياه إلى صدرها أثناء الرقص، وتأكد لي أن حباً خالصاً قوياً يفعم نفسه، ورأيت سليماً في حاجة إلى الاختلاء وأن وجودي معه لا يخفف شيئاً مما به، فانسللت من الغرفة وعدت إلى منزلي وقد عقدت النية على أن أزوره في الغد، فلما زرته في اليوم التالي وجدته أميل إلى الهدوء وإن كان في مظاهره ما ينم عن بقية جزع.
مرت على أثر ذلك أيام عاد بعدها إلى سليم صفوه وعاوده جذله ونشاطه فعكف على عمله الموسيقي بارتياح نفسي جليّ، وتفاءلت أنا خيراً إلى أن كان ذات يوم زرته فيه فوجدته جالساً إلى البيانو على عادته، وأمامه أوراق السلم الموسيقية ينظم عليها أنغامه الجديدة، ويجربها ثم يمحو ويغير ويبدل حتى يستقيم له النغم الذي يريد، فجلست حذاءه وأخذت في مطالعة كتاب أدبي كان بيدي وتابع هو عمله، وبينما نحن كذلك إذا بالباب قد طرق ودخلت خادمة في البيت وفي يدها كتاب دفعته إلى سليم ففتحه وقرأ وفكر قليلاً ثم دفعه إليَّ فتناولته وقرأت:
بانتظارك كل يوم بعد الظهر في منزل السيدة ك. ولا أراك إلا ملبياً نداء الغرام، ولك مني الآن قبلة حارة أطبعها على توقيعي.
((و))
ولما فرغت من قراءة هذا الرقيم تبادلت وسليماً نظراً طويلاً ثم نهض سليم من مجلسه كمن تنبه لأمر خطير وذهب إلى طاولة صغيرة واقفة في زاوية من زوايا الغرفة، وكان يتخذها مكتبة له فجلس إليها وتناول ورقاً وقلماً وكتب رسالة إلى السيدة و. أطلعني عليها فإذا هي كما يلي:
(أيتها السيدة العزيزة لقد جمعتنا الصدفة في بيت السيدة ك. للمرة الأولى، وإنه ليؤسفني أن يكون ذاك الاجتماع قد أوجد في قلبك مثل العواطف القوية التي تتحدثين عنها، يؤسفني ذلك جداً لأني أشعر بما تعانين في حياتك من الآلام الداخلية دون أن يكون في إمكاني تخفيف شيء منها، وإني لو حاولت ذلك لكنت كاذباً في ما أقول أو أفعل وقلبي لا يطاوعني على الكذب وضميري لا يرتاح إلى الخيانة، فإن حباً أو أفعل وقلبي لا يطاوعني على الكذب وضميري لا يرتاح إلى الخيانة، فإن حباً حقيقياً يملأ نفسي، ومتى وجد الحب الحقيقي فلا سبيل إلى التبديل، وكل محاولة من هذا القبيل تكون بلا شك محاولة فاشلة، ولا أظنك ترضين الفشل لنفسك ولي، فتحملي آلامك بصبر فذلك فضيلة يندر مثلها وملا تدعي رجلاً ينغمس في الإثم، ثقي بأنني أشعر بالألم الذي تشعرين، ولكن لتكن آلامنا عبرة لا نكبة وإذا كانت نكبة فمن الخير أن تبقى فينا ومن الشر أن تنتقل إلى غيرنا.
(أشكر لكِ مدحكِ إياي، ولكن أخطأت في وضعي فوق أبناء قومي فما أنا إلا واحد منهم، وأرجو أن تحملي كلامي هذا على محمل الإخلاص، وإذا كانت العواطف التي في قلبك حقيقية فهي ولا شك تعينك على فهم ما أغلق على الآخرين والفهم يحولك عن طلب العزاء الخاص الذي قد يكون مصدراً للضرر إلى طلب العزاء العام، فكلنا يحتاج على العزاء. وتكرمي بقبول سلامي واحترامي.
((سليم))
وكان هذا الكتاب آخر العهد بالسيدة و.
ومرت بعد ذلك الأيام تباعاً، ومضى سليم في توقيعه وتأليفه وكنت أجيء إليه كل يوم أطلع على تقدمه في عمله وأسمع ما يجربه من الأنغام الجديدة التي تمثل عواطف قلبه القوية وأفكار دماغه السامية، وأبدي له ما يحدثه توقيعه فيَّ من التأثير العميق ثم أعود وقد تولاني جذل لا مزيد عليه، وكان إني انقطعت عن زيارته خمسة أيام متوالية كنت فيها مشغولاً بالبحث عن العصر الذي عاش فيه الشاعر السوري الاكليركي القديم الذي ذكر تاريخ الأدب الألماني لمؤلفه الفرد بيزي ( ) أن قصائده الإلهية ترجمت إلى اللاتينية ومن هذه إلى الألمانية وغيرها وأنها سبب نهضة شعرية في كل أوروبا، فلما زرته بعيدها لم أجده جالساً إلى البيانو كعادته بل ألفيته طريح الفراش في حال لا أخشى التصريح بأنها هالتني، فإن الأيام الخمسة الماضية كانت قد بدلته تبديلاً غريباً، فاصفر وجهه ونحل، وذبلت عيناه وهزل جسمه ومال إلى السقم، ونمت نظراته عن ألم نفسي عظيم، أثر بي منظره وهو على هذه الكيفية تأثيراً عميقاً وشعرت عين شعور الملون الفني الذي يعرف قيمة التلوين حين يرى ملونة بديعة جديرة بالخلود قد تمزقت أو متحفاً فنياً فخماً قد التهمته النيران، أو شعور الإنسان الذي يشاهد مدينة ضخمة عظيمة قد طغى عليها بركان هائل وأخذها على حين غرة، ولكن في الناس أنانيين شديدي التمسك بأنانيتهم حتى أنهم لو شاهدوا تهدم مدينة عظيمة زاهرة أو تلاشي شعلة الشباب والحياة من جسد إنسان لما شعروا بغير ما يشعرون حين ينظرون إلى شمعة تذوب احتراقاً أو إلى زهرة تذوي لانقطاع الماء عن جذورها والطل عن أوراقها، وهل يشعر الأناني بشيء حين يرى ذوبان شمعة أو ذبول زهرة؟ إني للأناني أن يفقه شيئاً من هذه الرموز وهو منصرف بكليته إلى لذاته ومصالحه؟
وقفت عند السرير أتفقد حال صديقي بلهفة وجزع ولكن سليما أجابني على نظراتي بتبسم وضح لي فيه معنى السخرية من كل شؤون الحياة، وكان وسط ما هو فيه من عواطف وزعازع داخلية يتمسك برباطة جأش نادرة المثال، فلم أتمالك عن الإعجاب به لهذه الخلَّة إعجاباً فاق ما كنت أضمره له من الإعجاب بأخلاقه وفنه، ثم لم يلبث أن خاطبني قائلاً:
(ما بالك واقفاً والكرسي إلى جانبك؟ أجلس لنتحدث قليلاً، أين كنت كل هذه المدة)؟
فجلست على الكرسي الذي أشار إليه وقلت:
كنت أنقب من العصر الذي عاش فيه تاتيان العظيم.
تاتيان؟ ومن تاتيان هذا؟
يذكر المؤرخ الأدبي الألماني الفرد بيزي، أن تاتيان شاعر سوري اكليركي مجيد نظم قصائد روحية كان لها تأثير عظيم في تطور الشعر الأوروبي عامة والشعر الألماني خاصة.
فزفر سليم ثم قال:
هل توفقت في تنقيبك أو هل عثرت على شيء من قصائد هذا الشاعر؟
"كلا، فالوقت لم يكن متسعاً بهذا المقدار ولا يخفي عليك أن آثارنا الأدبية مبعثرة تبعثراً لا مثيل له، وليس في البلاد معاهد أو مكاتب عامة أو خاصة تهتم بجمع شتات الآثار الأدبية السورية، والمؤسف أن يكون جل أدبائنا إن لم يكن كلهم جاهلين تاريخ أدبهم القومي جهلاً فاضحاً، حتى أنه لا يكاد يوجد بينهم من يشعر بوجوب التوقف عن ثرثرته ولو فترة قصيرة لينظر في حياته الأدبية نظراً أعمق من النظر السطحي الذي تعود أن يلقيه على الأدب والحياة جميعاً، أن معظمهم يسيرون في مقدمة الأدب التقليدي".
وما كدت أنتهي إلى هذا الحد حتى رأيت وجه سليم قد جف وتجهم دليلاً
على زيادة آلامه النفسية، قصمت وكنت راغباً في معرفة السبب الذي ألقاه في الفراش لغير مرض ولكني أشفقت عليه وصبرت على مضض، وبعد هنيهة قال سليم:
(إن آلاماً عظيمة، آلاماً لم يسبق لها مثيل، تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا، إذ ليس على الواحد منا أن ينكر ذاته فحسب بل عليه أن يسير وحيداً بلا أمل ولا عزاء، لأن حياتنا الاجتماعية والروحية فاسدة، فكيفما قلبت طرفك رأيت حولك نفوساً صغيرة متذمرة من الظلمة التي هي فيها ولكمنها لا تجرؤ على الخروج إلى النور، وإذا وجدت نفس تمديدها إليك مريدة أن ترافقك في سيرك نحو النور وجدت ألف يد أخرى قد امتدت إليها لتبقيها في الظلمة، ليس لابن النور صديق بين أبناء الظلمة، وبقدر ما يبذل لهم من المحبة، يبذلون له من البغض) وزفر صديقي زفرة حارة وتابع ذلك بلهجة ساخرة: ولأهل الظلمة مقاييس للأخلاق والشرف والخصال! ولهم أيضاً حدود للعواطف البشرية من تجاوزها كان معرضاً للسخط والانتقاد الشديدين، فإذا وجدت فيك عواطف تحملك على ترك المطالب الأنانية والأغراض الهزيلة وترفعك نحو مطلب أعلى يسمو على الشؤون الدنية فأنت معذب عذاباً أليماً بين أبناء هذا الجيل في هذا الوطن السيء الطالع.
قلت:
(إنك تتكلم الآن بمرارة نفس شديدة فهلا زدت ثقتك بي وأطلعتني على ما دهاك لعلي أجد رأياً فيه الخير)؟
- (لا حد لثقتي بك، ولكني أشفق أن تتحمل فوق ما أنت متحمل).
- (لا تشفق. فليس العلم بالسوء أعظم وطأة من الشعور به).
فنظر إليّ نظراً طويلاً ثم تناول من تحت وسادته كتاباً دفعه إليَّ فقرأت:
صديقي العزيز أخشى أن يكون الليل الذي لا صبح بعده قد أقبل فإني أكتب إليك هذه الكلمات القليلة لأسألك أن لا تأتي إلينا بعد اليوم وهذا خير لك ولي، ثق بأني قد فكَّرت ملياً قبل أن أقدمت على هذا السؤال وإذا كان لي في قلبك شيء من الاحترام فاحسبني صديقة ميتة، لا تكتب ولا تجتهد في أن تراني وأعلم أن أحد هذين الأمرين يسبب لي آلاماً شديدة.
(استودعك الله وإياه أسأل أن يشجعك ويمدك بالصبر في حياتك).
((صديقتك))
أعدت قراءة الكتاب باعتناء زائد ثم رفعت رأسي وقد تجلَّت لي خطورته وخطره، فقال سليم: (ليس هذا كل شيء أقرأ هذا أيضاً) وناولني كتاباً آخر تاريخه بعد تاريخ الكتاب المتقدم وعبارته كما يلي:
حضرة السيد الأكرم:
بعد السلام أبدي أه بالنظر إلى الصداقة التي تربطني وامرأتي بعائلة الآنسة دعد قد كلفتني وامرأتي بمخاطبتكم في قضية ابنتها تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها، فإذا أحببتم فتفضلوا بزيارتنا في منزلنا الكائن في شارع م. لنتباحث وإياكم بهذا الشأن إتماماً لرغبة السيدة الفاضلة سلمى ودمتم.
(حاشية: إذا قبلتم الدعوة فأرجو أن يكون حضوركم الساعة الثامنة مساء الجمعة أو السبت القادم).