الرئيسية
أحدث الصور
Kamal Nader
١٠ أكتوبر ٢٠١٤
شرح مختصر حول " المدرحية "
المدرحية هي النظرة الفلسفية التي جاء بها مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة ، وبها يفسر ويعلّل الوجود الإنساني الاجتماعي وحركة التطور وحركة التاريخ والابداع ، وبها نفهم القيَم الإنسانية والدوافع التي تحرّك الفرد والمجتمع، ونفهم العلم والعقل والفن والوجود الانساني.
ولقد اوجد سعادة كلمة " المدرحية " وكان الوحيد الذي استعملها ، وقد نحتها من كلمتين هما " المادة " والروح" وأوضح ان الروح تعني النفس الإنسانية بكل ما فيها من عقلٍ وعاطفة ومشاعر ومواهب ، ولذلك نجد انه يستعمل تعبير " العوامل النفسية المادية " بنفس معنى " العوامل المادية الروحية "،فالمدرحية اذن تعني " المادية - النفسية " ، وليست تعني القوى الروحية التي يفترض بعض الفلاسفة انها موجودة خارج المجتمع وخارج هذا العالم وانها هي التي تحرك الانسان والمجتمع والاشياء الماثلة في الكون . إن فلسفة سعادة لا تستند الى الغيب ولا الى عالم الأرواح الافتراضي ولا الى الاساطير والخرافات ، بل هي فلسفة اجتماعية إنسانية واقعية نابعة من العقل والمعرفة وخاضعة للعقل والمنطق والمناقشة ، ومستندة الى الحقائق والوقائع .
بعد هذا التفسير الاولي لمعنى كلمة " مدرحية " ومن اين استنبطها سعادة ننتقل الى شرح موجز لهذه النظرة الفلسفية ومدى تطبيقها على الواقع الاجتماعي .
تفسر المدرحية الوجود الإنساني بأنه وجود مادي -روحي أي مادي -نفسي تتفاعل فيه النفس الإنسانية مع المادة الموجودة في الأرض والكون المحيط بنا تفاعلاً إيجابيا ينتج عنه التطور والتقدم وتتولد به ومنه قيمة الأشياء في المجتمع الإنساني .اما اذا لم يكن الانسان موجوداً فالعالم يكون عندئذٍ عالماً مادياً محض ، او عالماً حيوانياً . ولكي يتضح القصد نقول ان الكرة الأرضية والشمس والقمر والمجرات موجودة منذ مليارات السنين , لكن قيمتها كانت مادية بحت قبل ان يوجد الانسان على الأرض وقبل ان يتطور المجتمع وقبل ان يتفتح العقل ويبدأ بالتفكير والابداع ... القمر خالٍ من الحياة وكذلك المريخ وبالتالي لا يمكن القول إن في القمر او في المريخ وجوداً مدرحياً أي مادياً -نفسياً بل هو وجود مادي جامد ليس فيه حيوية ولا حياة وليس فيه روح.. كذلك كانت الكرة الأرضية وجوداً مادياً بحت قبل ظهور الانسان وتطوره ووصوله الى الحالة الاجتماعية والى العقل والنفس .
والخلاصة هي ان المادة موجودة في الأرض والكون ولكن لا قيمة إنسانية واجتماعية لها بدون الانسان العاقل ، وان الروح الإنساني لا وجود له الا في المجتمع المكوّن من تفاعل الروح والمادة ، اما عالم الأرواح الصرف فانه عالمٌ افتراضي قائم على اعتقاد غيبي ليس له دليل او اثبات حقيقي .كذلك فانه في عالم الحيوان يكون الوجود ماديا بحت ليس فيه عقل ولا مشاعر ولا عواطف ولا مواهب ولا ابداع ، بل غرائز ودوافع مادية بيولوجية تحرك الكائنات الحيوانية وتدفعها الى الصراع مع بعضها في سبيل البقاء والشبع واستمرار النوع والجنس .
وبخصوص حركة التاريخ والتطور الإنساني تقول نظرتنا الفلسفية إن حركة التاريخ والتطور هي نتاج تفاعل النفس والمادة وانه لولا العقل لما حصل تطور ولما كان هناك تاريخٌ ولا حضارة ولا علوم ولا تقدم بشري . وتقول أيضا إن ما ينتجه العقل لا يصبح موجودا بدون ان يتجسد في مادة وان الانسان يعبر عن فكره باللغة وهي أصوات مسموعة وحروف مكتوبة وكلمات مادية لكنها بحد ذاتها تبقى جامدة ولا قيمة لها الا عندما تنسكب فيها الأفكار والمواهب النابعة من العقل ومن النفس .. وسنعطي بعض الأمثلة على ذلك للتوضيح :
1- كتاب مصنوع من ورق وكلمات مطبوعة بالحبر ، ولكن قيمة الكتاب تتحدد وتكبر او تصغر بسبب الأفكار والمعاني او الادب والشعر الذي يحتويه هذا الكتاب ، فيمكن ان تجد كتابا تافها سخيفا مطبوعا طباعة فاخرة مع تجليد فني مذهّب وفي المقابل كتابٌ مثل المحاضرات العشر او نشوء الأمم مطبوع طباعة عادية ويباع بثمن زهيد قياسا بالكتاب الفاخر ، ولكن أي منهما يكون ذا قيمة اكبر واعظم من الناحية الفسلفية والفكرية والعقلانية ؟؟؟ وهل شعر المتنبي مثل شعر طرفة بن العبد مع ان الاثنين مكتوبين بنفس اللغة والابجدية ؟؟
2- مثلٌ ثانٍ عن منحوتة فنية او تمثال متقن هو في الأساس حجر مثل كل الحجارة وما اكثرها في الأرض والبراري ، جاء فنان موهوب فسكب في الحجر بعضاً من روحه وفنه ومكنونات نفسه فاذا بهذا الحجر قد اصبح ذا قيمة إنسانية عظيمة واصبح خالداً ، وفي نفس الوقت لم تكن موهبة هذا الفنان لتظهر وتتجسد لولا الحجر والازميل ، وكذلك الامر بالنسبة الى لوحة رسم ، فهي مكونة من أشياء مادية لكن قيمتها هي في روح الفنان الذي رسمها وهذا ما يميز لوحة عن لوحة ويعطيها قيمة معنوية ومادية لا تقدر بثمن مالي او اذا قدّرت تبلغ أرقاما مذهلة . وهناك امثلة عديدة عن الاختراعات والالات التي نستعملها والتي هي نتاج تفاعل العقل والمادة .
تقول الفلسفة المدرحية أيضا بأن الدوافع التي تحرك الانسان الفرد وتحرك المجتمع هي دوافع مادية - نفسية أي مدرحية ، فالانسان لا يتحرك بدافع الجوع وبالرغبة في الكسب المادي فقط .. والاقتصاد القومي او الوطني هو عملية مادية روحية يدخل فيها العقل والعلم والنفس والمواهب . كما ان قيم الحرية والواجب والكرامة والشرف تشكل دوافع هامة للإنسان تصل به الى التضحية بجسده وكيانه الفردي أي بحياته الشخصية في سبيل الدفاع عن قيمه الاجتماعية والوطنية او حتى الفردية وهذا ما نراه عندما يتعرض شخص للاهانة فيثور ويهاجم ويضرب وربما يصل به الامر الى ان يقتل الشخص الذي اهانه او يتعرض هو نفسه للموت وهو يدافع عن كرامته وشرفه . وعلى الصعيد الوطني العام نفسر ان الصراع والبطولة والاستشهاد والفداء هي اعمالٌ وقيمٌ مادية روحية وليست مادية محض بدافع الكسب المادي ولا هي روحية محض .
وعلى صعيد الاقتصاد وما اعتبرته الفلسفة المادية انه الدافع والمحرك للإنسان وللمجتمع نقول ان الاقتصاد هو نتاج العقل والمادة ولكنه ليس المحرك والدافع الوحيد الى التطور والابداع ، وان تطوير الاقتصاد لا يتحقق الا بتفاعل العقل والنفس مع المادة ما ينتج عنه الاكتشافات والاختراعات ، وبهذا نفهم ان كل ما بين أيدينا من سيارات وهواتف وطائرات وتلفزيونات ومعدات طبية وحواسيب ووسائل حياتية وادوية واطعمة الخ ... هي نتاج التفاعل بين النفس والمادة وتجسيد الفكر والمواهب في المادة .
يبقى ان نشير الى ان العقل هو نتاج الاجتماع البشري فلو ان فرداً وحيداً كان في غابة مثل " حي بن يقظان " او "روبنسون كروزووي" لما تطور بل تأخر وصار يقلد الحيوانات أي يعود الى ما دون السوية الإنسانية . فالعقل الإنساني المتطور والمتقدم يكون في المجتمع حيث تحصل عملية التفاعل بين الافراد ، وان المستوى العلمي والمعرفي هو نتاج تطور وتراكم للمعلومات والأبحاث والتجارب والاختراعات التي انتجتها المجتمعات على مدى عصور طويلة جداً ونحن لم نصل الى هذا المستوى من المعرفة والتنظيم والالات الحديثة بشكل فوري وعلى طريقة " كن فيكون " ، وان مستوى فهم وعقل طلاب اليوم ليس كمستوى الطلاب قبل مئة سنة بل هناك فوراق كبيرة هي نتيجة التطور المادي النفسي أي المدرحي ، والشيء نفسه يمكن ان نقوله عن الفوارق بين مستوى دولة او مجتمع متطور ومعتمد على العلم والأبحاث العقلانية ومستوى مجتمع ما يزال متخلفاً يعتمد على التقليد والاستهلاك وينام على الايمان بان القوى الغيبية المفترضة تتولى تسيير اموره وتحرك كل الأشياء ولا يصيبه الا ما تمت كتابته له في الواح القدر ..
هذه مطالعة موجزة في موضوع المدرحية ، ومن الممكن ان يذهب الواحد منا في البحث الفلسفي الى تسطير صفحات طوال في هذا الموضوع وان يقارن بين المذاهب الفلسفية المادية والمذاهب الروحية ، وان يقارن بينها وبين الفلسفة المدرحية ، ولكن نكتفي هنا بهذا القدر من التوضيح مع الإشارة الى ان الزعيم لم يتوقف كثيرا او يغرق في الأمور الفلسفية والنظريات ، بل كان اتجاه تفكيره اتجاهاً عملياً تنفيذياً بصفته الزعيم والقائد المصارع الذي يتصدى للواقع ويدير الصراع ضد أعداء الامة وضد الأوضاع الرجعية والقوى الفاسدة الموجودة في الوطن والعالم والتي تشكل خطرا على وجودنا وتعيق عملية النهوض والتقدم نحو الحياة الفاضلة لبلادنا . وفي هذا الصراع لم يكن عنده الوقت للبحث النظري ، كما ان الاحداث الكبرى داهمته فاستشهد قبل ان يضع بحثاً كاملاً في هذه المواضيع الفلسفية وبقي على تلاميذ مدرسته الفكرية والنضالية ان يكتبوا ويشرحوا ما جاء به وتركه للأمة من تراث فكري ونضالي عظيم .
6 أكتوبر 2014 الأمين كمال نادر
